هل يأتي تطور العلاقات التركية الإسرائيلية على حساب الفلسطينيين؟

تزايد الحديث في الأيام الأخيرة عن تبادل الزيارات الرسمية عالية المستوى بين تركيا وإسرائيل، في ظل توجه ورغبة تركية واضحة بتحقيق تطبيع العلاقات مع الدولة العبرية. ولا يعتبر ذلك التوجه التركي جديداً، فقد بدأ مع نهايات العام ٢٠٢٠، كما أن هناك العديد من الشواهد العملية التي تدعم تحقيق ذلك التوجه. ومن المعروف أن العلاقات التركية الإسرائيلية قد شهدت اضطرابات سياسية ودبلوماسية عميقة منذ العام ٢٠٠٨، كان سببها الأبرز الدعم التركي الواسع لفلسطين وشعبها. ورغم أنها ليست المحاولة الأولى التي تجري لتطبيع العلاقات بين البلدين، فقد شهد العام ٢٠١٦ توقيع اتفاقية تطبيع لإعادة علاقات البلدين لطبيعتها، وتتشابه ظروف توقيعها مع الظروف الموجودة اليوم، الا أن فرص نجاح التطبيع اليوم تعد أكثر ملاءمةً لضمان استمرار التطبيع، إن نجح البلدان في تحقيقه. ولكن هل ستضحي أنقرة بالفلسطينيين ودعمها المطلق لقضيتهم، في ظل حاجتها الملحة لتطبيع علاقاتها مع إسرائيل اليوم؟
بدأ توجه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لتحسين علاقاته مع إسرائيل منذ كانون الأول من العام ٢٠٢٠، عندما أبدى اهتمامه بتطوير علاقات بلاده مع إسرائيل، معتبراً أن حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو هي السبب الرئيس في توتر تلك العلاقات. وتصاعد هذا التوجه بشكل مطرد بعد ذلك خلال العام الماضي، إلى أن بلغ ذروته خلال الأيام القليلة الماضية. وكان اتصال أردوغان الهاتفي لتهنئة إسحاق هرتسوغ، الرئيس الإسرائيلي الجديد، في شهر حزيران من العام الماضي، إشارة مهمة على هذا التطور. وفي الشهر التالي عينت أنقرة ملحقاً ثقافياً في سفارتها في تل أبيب لأول مرة منذ عام ٢٠١٠. وتطورت تلك الاتصالات عملياً في شهر تشرين الثاني الماضي، عندما أفرجت أنقرة عن سائحين إسرائيليين اتهما بالتجسس بعد تسعة أيام فقط من توجيه هذا الاتهام، في ظل تبادل مكثف للاتصالات والتفاهمات، والتي انتهت باتصال جرى بين أردوغان ونفتالي بينيت رئيس وزراء إسرائيل اليميني المتطرف، بعد ساعات من إفراج تركيا عنهما. واختتمت تلك التطورات بزيارة هرتسوغ الشهر الماضي إلى أنقرة، في أول زيارة من نوعها منذ سنوات، والتي تم التصريح بدعمها من قبل بينيت وكذلك يائير لابيد وزير الخارجية الإسرائيلي.   
ومن المعروف أن توتر العلاقات التركية الإسرائيلية بدأ عام ٢٠٠٨ عندما تفاجأت تركيا بشن إسرائيل حربها على قطاع غزة، في حين كان إيهود أولمرت رئيس الوزراء الإسرائيلي في زيارة لأنقرة قبلها بخمسة أيام. وشكل هجوم أردوغان على شمعون بيريس الرئيس الإسرائيلي في حينه في منتدى دافوس عام ٢٠٠٩، عندما وصفه بقاتل الأطفال، منعطفاً آخر في هذه العلاقة.  الا أن التوتر الحقيقي والذي أنتج قطيعة سياسية ودبلوماسية جاء في ظل الاعتداء الإسرائيلي على «أسطول الحرية» الذي كان متجهاً لكسر الحصار عن غزة، وقتل خلالها عشرة أتراك. ورغم توقيع البلدين اتفاق تطبيع عام ٢٠١٦، بعد أن أرغمت الولايات المتحدة إسرائيل على الاعتذار عن حادث اسطول الحرية وتقديم التعويض للضحايا، أعاد البلدان علاقاتهما السياسية والدبلوماسية. وعاد التوتر مرة أخرى للعلاقة التي لم ترجع لسابق عهدها عام ٢٠١٨، رغم توقيع اتفاق التطبيع، وتوترت العلاقات السياسية والدبلوماسية مرة أخرى في أعقاب استهداف دولة الاحتلال للفلسطينيين العزل خلال مسيرات العودة السلمية على حدود قطاع غزة.    
وعلى الرغم من توتر العلاقات التركية الإسرائيلية على المستوى السياسي والدبلوماسي والعسكري أيضاً إلا أن ذلك لم يكن يعني انقطاع العلاقات بين البلدين، اذ بقيت العلاقات الاقتصادية تحديداً جيدة، وتطور مستوى التبادل التجاري طوال سنوات الاضطراب. كما تعمدت أنقرة تطوير علاقاتها الأمنية مع إسرائيل خصوصاً خلال العامين الماضيين، أي منذ توجهها لإعادة الانفتاح السياسي والدبلوماسي مع إسرائيل. أعلنت أنقرة في شهر شباط من العام الماضي نجاحها في إحباط عملية كانت ستستهدف رجل أعمال إسرائيلياً في تركيا، كما كشفت صحيفة «يديعوت أحرنوت» أن جهاز الموساد ساعد في إحباط ١٢ مخططاً لشن هجمات على مواطنين إسرائيليين في تركيا خلال العامين الماضيين. ويأتي التوجه التركي بتطوير العلاقات مع إسرائيل في إطار توجه أوسع يشمل مصر والمملكة السعودية ودولة الإمارات العربية بالإضافة إلى إسرائيل ودول أخرى من خارج المنطقة، في إطار تبني تركيا نهج «تصفير المشكلات». وبادرت تركيا بالفعل بتطوير علاقاتها مع مصر والإمارات والسعودية.
ويبدو أن تركيا قد توجهت لتطوير سياستها تجاه دول المنطقة تحديداً ومنهم إسرائيل، بسبب فشل تعويلها على جماعة الاخوان للمسلمين خلال فترة الثورات العربية، واستقرار الأنظمة السياسية القائمة حالياً والتي باتت أمراً واقعاً، ما تسبب بعزلها عن محيطها الشرق أوسطي. كما لحقت بتركيا كبوات اقتصادية  متصاعدة، حيث فقدت الليرة التركية نصف قيمتها خلال العام الماضي وحده. ونتج عن ذلك التراجع في شعبية أردوغان وحزبه العدالة والتنمية، والذي ترجم خلال انتخابات عام ٢٠١٩، والخوف من تفاقم ذلك خلال الانتخابات الرئاسية والبرلمانية العام القادم.
تتشابه الظروف التي قادت لتوقيع اتفاقية التطبيع بين تركيا وإسرائيل عام ٢٠١٦ مع تلك التي تشهدها أنقرة اليوم، ولكن يبدو أن المعطيات اليوم أكثر نضجاً لتحقيق ذلك الاتفاق مقارنة بالماضي. تظهر رغبة واشنطن في المرحلتين بالتوصل لهذا الاتفاق، اذ تعتبر واشنطن أن بقاء تركيا في الحظيرة الغربية مصلحة أميركية خالصة، ويبدو ذلك ملحاً بدرجة كبيرة خلال هذه الأيام في ظل تفاقم الازمة الروسية الأوكرانية. تتقاطع أيضاً قضية عدم ثقة حلفاء الولايات المتحدة سواء كانت إسرائيل أو الدول العربية أو تركيا خلال العهدين، فخلال عام ٢٠١٦، تصاعد الحديث عن إمكانية انسحاب واشنطن من المنطقة، حيث وقعت بالفعل اتفاقاً نووياً مع إيران على غير رغبة حلفائها. واليوم تقترب واشنطن أكثر من الانسحاب من المنطقة وتقترب من توقيع اتفاق نووي مع إيران شبيه بالسابق. كما أن تركيا كانت ترغب عام ٢٠١٦ بالاتفاق مع إسرائيل على مشروع نقل الطاقة عبرها إلى أوروبا، وهو الامر الذي بات أقرب إلى التحقق اليوم، بعد دعم واشنطن لهذا المشروع، وانغلاق الطريق أمام المشاريع الأخرى، خصوصاً في ظل الحاجة الملحة الغربية لإغلاق الطريق أمام الغاز الروسي إلى أوروبا.
نعم هناك فرصة لتحقيق التطبيع بين تركيا وإسرائيل خلال الفترة القادمة، لكن هناك قضايا يجب وضعها في الاعتبار فيما يخص علاقة أنقرة بالفلسطينيين، فعندما تم توقيع اتفاق التطبيع عام ٢٠١٦، كانت مطالبة أنقرة برفع الحصار عن غزة أحد شروطها، ورغم عدم تحقيقه، إلا إن إسرائيل أيضاً لم تنجح في تحقيق مطالبها الخاصة بتسليم مفقوديها في غزة، وإغلاق مكتب حركة حماس في تركيا. كما أن التأييد الشعبي التركي للقضية الفلسطينية قضية محسومة، ومؤسسة الجيش التي كانت تضغط على الحكومة لصالح الميل باتجاه إسرائيل لم تعد تملك تلك السلطة. كما أن تركيا قامت بسحب سفيرها من إسرائيل عام ١٩٥٦، بعد العدوان على قناة السويس، وعام ١٩٦٧ بعد الحرب، وبعد ذلك في ظل تطورات العدوان الإسرائيلي المتصاعد على الفلسطينيين منذ عام ٢٠٠٨، وهو الأمر الذي يجعل الطرف الإسرائيلي متشككاً في مستقبل تطبيع العلاقات من تركيا اليوم.