تتفاقم الأزمة في الشرق الأوسط وتتشعب محاورها وتتعقد بشكل قد ينذر بتبعات غير محمودة في ظل تغيرات متواترة وعلى جبهات كثيرة. ولعل شعالالجبهة اللبنانية وما توالى من أحداث جسيمة تمثلت بسلسلة اغتيالات طالت رأس الهرم في حزب الله واستهداف أمينه العام حسن نصر الله بعد سلسلة اغتيالات طالت قيادات الصف الأول والثاني في الحزب ولازالت تسير بشكل ممنهج إلى يومنا هذا وتستهدف بشكل دقيق كل القيادات الفاعلة في الحزب بهدف القضاء على فعاليته وتقويض قدرته على العمل في ظل مرحلة غير مسبوقة من تعرض الحزب لهذه الضربات المتتالية والقاسية. أعقب ذلك الرد الإيراني على هذا الاغتيال والذي تمثل بإطلاق إيران عددا من الصواريخ تراوح بين 200-250 باختلاف التقديرات المعلن عنها من قبل الجانبين الإيراني والإسرائيلي. ضربة وإن كانت غير مسبوقة في رأي الكثير من المطلعين على الشأن الإيراني الإسرائيلي، إلا إنها قد تمهد لرد إسرائيلي لم تظهر ملامحه حتى اللحظة. تلي ذلك توغل بري لقوات الاحتلال الإسرائيلي تكبدت إسرائيل في اول وثاني أيامه خسائر فادحة في الأرواح وفقا لما تم نشره رسميا من قبل حزب الله وأكدت بعضا منه مصادر إسرائيلية، خاصة فيما يتعلق بخسائر اليوم الأول للتوغل البري. تأتي هذه الضربات المتتالية للبنان بهدف القضاء على قدرة الحزب التي نشطت منذ بداية الحرب على غزة، وشكلت جبهة مساندة ما انفكأمينها العام الراحل نصر الله من تأكيده بأنها جبهة لن تتوقف عن مساندة المقاومة في قطاع غزة حتى وقف العدوان عليها. لكن هذه الجبهة الجنوبية-ومنذ عام- تحركت ضمن حدود عمليات واهداف مدروسة ومحدودة من قبل الطرفين، تجنبا لأي مواجهة تخرج الطرفين عن حدود الاشتباك الكفيل بعدم تصعيد الموقف. لكن هذا تغير بشكل دراماتيكي خلال الأيام والأسابيع الماضية. وهذا يسير جنبا إلى جنب مع حلول الذكرى الأولى لهجمات السابع من أكتوبر، وما تلاها من حرب إسرائيلية على قطاع غزة طالت كل جوانب الحياة وأحالته لمنطقة يستحيل العيش فيها. حرب لم تنجز بها إسرائيل حتى اليوم أيا من أهدافها المعلنة على هذه الجبهة. هجمات تكبدت فيها إسرائيل ولازالت خسائر غير مسبوقة في تاريخها منذ النشأة. لعل إنجازها الوحيد في الواقع على الأرض والذي لا تجاهر به لكن العالم كله يشهده ويعيشه وهو استمرارالإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني واكتمال كل عناصر التطهير العرقي في القطاع كما رآها الكثير من المراقبين والعاملين في منظمات الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة الدولية. والمطلع على مسيرة حياة نتنياهو والملم بشخصيته يرى بأن ما حدث في السابع من أكتوبر لم يكن بنظره إخفاقا مخابراتي وتقصير أمني مكن حماس من القيام بأوسع هجوم تشهده إسرائيل منذ نشأتها. لكن نتنياهو رأى بهذا الاختراق هزيمة شخصية لشخص يوصف بال “نرجسي” ولا يقبل الهزيمة ويفر بمجتمعه ودولته والمنطقة نحو الهاوية بتصعيد غير معلوم النهاية. لكنه صرح بما لا يجاوره الشك خلال خطابه الأخير الذي أعلن من خلاله انضمام جدعون ساعر إلى حكومته بأنه يعمل على “تغيير الواقع الإستراتيجي في الشرق الأوسط كله. لكن خطاب نتنياهو والذي حمل بين طياته نشوة الانتصار باغتيال الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله تبدل خلال أيام معدودة وهو يقف متشحا بالسواد معلنا بإن إسرائيل تمر بأيام صعبة. يعمل نتنياهو ما يحلوا له وتتصرف إسرائيل تحت إمرته وكأنها دولة فوق أي وكل قانون، وهذا يسير بصمت تام لابل بمباركة وإن لم تكن مصرح بها من الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية التي ما انفكت تزود إسرائيل بالعدة والعتاد، وتستخدم حق النقض الفيتو في وجه أي قرار يطالب بكبح جماح العدوان الإسرائيلي ويطالب بعدم معاملتها كقوة خارجة عن القوانين والأعراف الدولية تصول وتجول بلا حساب أو عقاب. أو يتسم بصراحة لا يجاورها الشك بأن أمريكا ودول أوربية كثيرة ستساند إسرائيل في دفاعها عن نفسها وبقائها.
كل هذه الأحداث والتطورات والجبهات الملتهبة والتجاوزات الفادحة للقوانين الدولية وانتهاكات حقوق الإنسان لا يمكن قراءتها بمعزل عمن هو في سدة الحكم في إسرائيل. وهذا المقال يحاول إعادة قراءة ما تلي هجمات السابع من أكتوبر من العام 2023 من العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة وما تلاه من تبعات بالتقاطع مع كتاب رئيس الوزراء الإسرائيلي المعنون “مكان بين الأمم – إسرائيل والعالم” الصادر في نيويورك في العام 1995.
ففي كل فصول الكتاب يصول نتنياهو ويجول مروج لفكرة واحدة لا يجاورها الشك مفادها بأن “القوة الضاربة” وفقط القوة هي سبيل إسرائيل الوحيد للاستمرار والبقاء. ولا يخجل أبدا من توجيه انتقادات لاذعة لمن سبقه من مسؤولين إسرائيليين في اليمين واليسار رأوا في الحلول السلمية نهجا قد يساعد إسرائيل على الحصول على الأمن والازدهار في محيطها ومع جيرانها.
يرى رأس السلطة في إسرائيل بأن التنازل عن الضفة الغربية لصالح اتفاقياتالسلام وما تلاها من تفاهمات بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية كان خطأ فادحا أوصلهم إليه من يلقبهم بمتبني “نظرية ما بعد الصهيونية” حيث يرى بأن “من شأن التنازل عن الضفة الغربية تعزيز المطالبة العربية بالجليل والنقب ومناطق أخرى في دولة إسرائيل” وهذا هو النهج الذي تبناه في كل السياسات التي انتهجتها حكوماته المتتالية منذ عقود، وصولا إلى تشكيلة الحكومة الحالية التي يلتف بها من حول أعتى المتعصبين يمينيا الذين لم يعودوا يهمسون برغبتهم بإبادة الفلسطينيين وتهجيرهم قسريا، لا بل يجاهرون بذلك في أكبر المحافل الدولية وفي عواصم قطعت على نفسها عهدا بأن لا يتكرر ما حصل إبان “الهولوكوست”. يسوق نتنياهو في كتابه أمثلة من القادة الذين يحتذي بهم وإن اختلف معهم أيديولوجيا، ويذكر هتلر في المقدمة منهم وستالين وصدام حسين في احتلاله للكويت. ويروج نتنياهو في فصله الأخير والمعنون “مسألة القوة اليهودية” بأنه لابد من استخدام الضربة القاضية التي تنجز على عدوك بالتوازي مع ترويجك، حتى لو “كذب” لعدالة قضيتك. فهو يقول بأنالجيش العراقي احتل الكويت في غضون ساعات فقط، لكن صدام حسين -في نظر نتنياهو- لم يكن مستعدا نهائيا للصراع السياسي الذي استمر طيلةالشهور الستة التي تلت الغزو. انه لم يستطع اقناع دول العالم بعدالة حربه. ولذا لم يتمكن من منع نشوء جبهة حربيه ضده استهدفت انقاذ الكويت.” أي أن نتنياهو لا يرى في احتلال العراق للكويت خللا سوى في إخفاق صدام حسين آنذاك بالترويج لما يريد القيام به. وهذا ما قام به نتنياهو في كل خطاب ألقاه سواء داخل او خارج إسرائيل مبررا عدوانه ومجازره المرتكبة في قطاع غزة. لعل أهم هذه الخطابات ذلك الذي ألقاه أمام الكونغرس والذي يشكل عملية “غسيل دماغ” لكل من لا يلم بتفاصيل الصراع ولا يعرف عدالة القضية الفلسطينية. حتى الخطاب الأخير الذي كان يلقيه في الأمم المتحدة، بينما جيشه يمطر بيروت بآلاف الأطنان من القنابل مستهدفا الأمين العام لحزب الله،كان خطابا منسلخا عن الواقع، يروج فيه لشرق أوسط جديد مفصلا على مقاس إسرائيل وأهوائها، طرح لا يروق إلا لمحبي السياسات الإسرائيلية وعشاق الفكر الصهيوني.
يستهل نتنياهو كتابه مفندا كل الادعاءات سواء اليهودية وغير اليهودية بحق الفلسطينيين بالعيش بدولتهم على حدود 1976 ويرى في أي اتفاقيات من شأنها تمكين منظمة التحرير من السيطرة على هذه المناطق بأنها سياسات خاطئة، وبأن كل من يسير في ظل التسويات السلمية أو منح الفلسطينيين أي حق من حقوقهم ” معضلة أخلاقية لدى الرأي العام العالمي، تقوض الإيمان بعدالة قضيتنا (اليهود) لدى شعبنا في الداخل وفي المهجر.”
يرى نتنياهو بما لا يجاوره الشك بأن “نظرية ما بعد الصهيونية” تعتبر خطأ فادح لم يكن على إسرائيل وقياداتها الوقوع فيه بأي شكل من الأشكال.ويصرح بقناعة لا تجاورها الشكل بأن الفلسطينيون كلهم في نظره سواء حيث يقول ” تتشكل منظمة التحرير الفلسطينية مرشدا وفيا لحماس ولبقية الحركات الإسلامية المتطرفة.” ويرى بأن اتفاق أوسلو والاستمرار به سيؤدي ل “تطويق إسرائيل بحزام من قواعد الإرهاب الإسلامي، هدفها الوحيد هو القضاء على دولة إسرائيل.” ويذهب نتنياهو لأبعد من ذلك في رؤيته لحل القضية الفلسطينيةمعتبرا إياهم -إي الشعب الفلسطيني- أقليات بالإمكان استيعابها في المجتمع دون أن يكون لذلك أي تأثير على إسرائيل.
وهذا لا ينفي رغبة نتنياهو الصريحة بإبرام اتفاقيات سلام مع الدول العربية المحيطة دون ان يذكر من بين هذه الدول الفلسطينيين. اتفاقيات تعزز وجود إسرائيل وتدعم مصالحها في محيطها العربي ولا وجود فيها للفلسطينيين من قريب أو من بعيد، فهذا كله يصب في رؤية نتنياهو المتمثلة بأن ” الإعتراف بأن الشعب اليهودي أيضا يجب أن يكون له مكان تحت الشمس، وأن ليس له مكان أخر سوى أرض إسرائيل.” وأن كل ما قامت وتقوم به إسرائيل يصب فقط مسألة حقها في البقاء. يروج نتنياهو لأن ما حدث لليهود على يد النازيين يعود لعدم امتلاكهم القوة اللازمة لمجابهة ذلك ويقول بأنه ” بعد الكارثة أدرك يهود كثيرون أن عدم قدرتهم على وضع قوة مقاومة شديدة -في مواجهة النازيين- جعل من السهل عليهم تنفيذ عملية إبادة ستة مليون يهودي.” وهو يرى بأنه دون وجود قوة إسرائيلية رادعة ” ستحل باليهود كارثة جديدة -هذه المرة على أيدي العرب”. ويضع نتنياهو مفاضلة قد بين اليسار واليمين فيقول ” يعتقد اليساريون أنه إذا تخلصنا من المناطق المحتلة سيحل الخير على إسرائيل، في حين تعتقد الحركات اليمينية أنه إذا تخلصنا من العرب، سنحقق نفس النتيجة.” وما يقوم به نتنياهو حاليا في غزة من حرب إبادة يندرج تحت باب قناعته الشخص بأنه ” في ظل المفاهيم الديمقراطية في العالم، وعلو شأن وسائل الإعلام الجماهيرية، أصبح الرأي العام الدولي ميدانا رئيسيا يتم فيه حسم الصراعات السياسية، وبغض النظر عن كون الصراع عادلا أو ظالما.” وكل ما عليك فعله في نظره هو “أن يحاول إقناع العالم بعدالة هدفه.” لا يتوقف نتنياهو في كل زوايا كتابه عن وصف العرب بالكذب قائلا بأنهم ينسجون أقنعة واسعة من الأكاذيب، مدعين بأن القضية الفلسطينية هي قلب النزاع في الشرق الأوسط. يمكن إجمال ما يقوم به نتنياهو من سحب المنطقة إلى أفق غير معلوم ينبع من شعوره الشخصي بأن قوة إسرائيل وصورتها اهتزت وهذا أمر بنظره جليل، فهو يعتقد بأن ” القوة هي حجر الزاوية لكل جهد يستهدف كسب حلفاء جدد، والمحافظة على تحالفات قائمة.” وما قامت به حماس في السابع من أكتوبر قوض صورة إسرائيل في نظر حلفائها والعالم كونها قوة عسكرية بجيش لا يقهر. وما انفكت إسرائيل بقيادة نتنياهو منذ عام تحاول إعادة اعتبارها وإصلاح الصورة في حرب الأرض المحروقة التي تنتهجها تجاه قطاع غزة، لكنها لم تستطع حتى يومنا هذا وبعد عام انجاز أي من أهدافها المعلنة، بل يذهب الكثيرون للقول بأن اتجاه البوصلة الأمريكية نحو لبنان جاء وسط حاجة محمومة من قبل نتنياهو للترويج لنصر من نوع ما مع حلول الذكرى السنوية الأولى للسابع من أكتوبر.