تبدو الإجابة عن هذا السؤال وكأنّها من بديهيات الواقع السياسي، ويبدو أنّ ذهاب «اليمين» الجديد في دولة الاحتلال إلى معارضة هذه الاستجابة، أو التمرّد عليها مسألة خيالية، وخارجة عن نطاق العقل والمنطق العام، وخارج نطاق المنطق «اليميني» نفسه.
وإذا عدنا إلى «الفرحة» العارمة التي عبّر عنها «اليمين» الفاشي في دولة الاحتلال؛ عندما اكتسح دونالد ترامب الانتخابات الأميركية، فإننا لا نجد سوى مظاهر غير مسبوقة من الابتهاج بهذا الاكتساح.
وفي هذا السياق، يبدو أنّ الصفقة قد تمّ تأجيلها خصيصاً حتى موعد التنصيب، بل ويمكن القول: إن كل «طبخة» الحرب باتت رهينة، ومؤجّلة ومرصّدة لذلك الموعد.
إن لم تكن هذه الأفكار والآراء هي الطاغية على مشهد رصد التوقعات، فهي الأكثر رواجاً، والأوفر حظّاً من بين كل التصورات المطروحة لقراءة التطورات القادمة.
نعم، قد يكون هذا كله هو الأرجح.. ولكن، على الكاتب السياسي ألا يسلّم بذلك بسرعة، وعليه أن يحذر من «الانجرار» خلف مثل هذا الرواج – وهذا أضعف الإيمان – وأن يحاول الدخول في بعض التفاصيل الملموسة لمسألة الاستجابة.
هنا علينا كما أرى أن نعود للطريقة وللنهج الذي يسير عليه بنيامين نتنياهو، وعلينا أن «نضع» أنفسنا في مكانه، وعلينا أن نقرأ المعادلات الحاكمة في حساباته قبل أن نتسرّع في الانجرار الذي أشرنا إليه.
هل الصفقة مع حركة «حماس» إذا كانت تعني اعتماد «مسار» إنهاء الحرب الإبادية، بدلاً من قيامها على قاعدة الدفعة الواحدة، أو على قاعدة المراحل الثلاث.. هل هي في مصلحة نتنياهو، أو مصلحة «الائتلاف الحاكم»، أو «اليمين» كله، بما في ذلك «اليمين الفاشي»، أم أنها في واقع الأمر ضدّ هذه المصلحة إذا كانت تعني نهاية الحرب.
الجواب، كما يرى غالبية كبيرة هو (لا) صريحة.
وحتى بالنسبة لوقف إطلاق النار في جنوب لبنان، فإن الذهاب إلى اعتماد، أو مسار اعتماد تطبيق (1701) لا يمكن أن يلبّي أهداف وطموحات نتنياهو بالمطلق، طالما أنّ هذا التطبيق سينتهي في نهاية المطاف إلى «كفّ» اليد العدوانية الإسرائيلية عن الحدود البرية والبحرية والجوية اللبنانية، مقابل سحب قوات «حزب الله» اللبناني إلى شمال الليطاني، وسحب الأسلحة الثقيلة، أيضاً، وهما أمران في الواقع الميداني اللبناني لا يعنيان الكثير، ولا يؤثّران على وجود قوات الحزب، ولا على قدراته وفعالية أسلحته الثقيلة!
كيف سيقبل نتنياهو الصفقة في القطاع؟ وكيف سيقبل «الالتزام» بشروط ومحدّدات وقف إطلاق النار في لبنان؟ وإلى أين ستنتهي الحكومة الحالية؟ وإلى أين سينتهي مشروع «اليمين» إذا قبل بذلك؟
الاستنتاج المنطقي هنا هو أن نتنياهو إذا «أراد» أن يستجيب لرغبات ترامب بإنهاء الحرب الهمجية في غزة، وفي منطقة الإقليم، على اعتبار أن الصفقة مع «حماس» يمكن أن تكون المفتاح لتهدئة مرحلية شاملة، فإنّه سيحاول «خلق» وقائع جديدة في أسرع وقتٍ ممكن لكي تلبّي استجابته للمصالح الخاصة بنتنياهو وبالائتلاف «اليميني» كله.
أما إذا لم يتمكّن – وهو لن يتمكّن كما تشير الدلائل – من هذا الأمر، فإنّ استجابته ستصبح مستحيلة عليه سياسياً.
الوقائع التي يرى نتنياهو أنها قابلة للتحقيق هي أن يُصار إلى صفقة لا تقيّد الجانب الإسرائيلي بعد المرحلة الأولى، والتي تسمّى المرحلة «الإنسانية»، وتتيح له استئناف القتل والإجرام مباشرةً بعد انتهاء موعد نهاية هذه المرحلة.
ويهدف في جنوب لبنان إلى «إبداء» استعداده للذهاب إلى اعتماد مسار تطبيق (1701) بشروط جديدة، وبتفسيرات مختلقة، وتبريرات وحجج وذرائع من شأنها تعطيل هذا المسار.
من حيث الجوهر، فإنّ مثل هذه الوقائع هي وصفة جاهزة لاستئناف القتال على الجبهتين، وهي لن توقف الصواريخ «الحوثية»، وقد لا تبقى الأمور محصورة بهذه الجبهات الثلاث، ناهيكم طبعاً عن الاستشراس المتوقّع على جبهة الضفة الغربية «لتحفيز» ترامب نحو اتخاذ خطوات كبيرة للضم، ولأجزاء كبيرة منها، خصوصاً ضمّ الكتل الاستيطانية الكبيرة.
وهكذا نكون أمام استجابة مشروطة، و»تهدئة» مزيّفة، وإمكانية كبيرة لاستئناف حرب الإبادة الكارثية في كل لحظة.
وهنا يأتي دور السؤال: هل هذا ما يريده ترامب؟ أو بصيغة أخرى للسؤال، هل هذا ما سيقبله ترامب، ويسير به قُدماً نحو «السلام» الذي أصرّ عليه، وأصرّ على تكراره والتأكيد عليه في حملته الانتخابية؟
لم أعد أذكر من هو الصحافي الإسرائيلي الذي قال إن الإستراتيجية الوحيدة التي لدى نتنياهو هي ألا يكون هناك أيّ إستراتيجية، وإنّ استمرار الحرب، بأيّ شكلٍ، وبأيّ صيغةٍ هو الهدف الوحيد الذي يسعى إليه، وإنّ كلّ ما هو خارج هذا الفهم ليس له أي علاقة جوهرية بكلّ ما يقوم به، وبكلّ ما يفكّر به الأخير.
إن ما ورد أعلاه هو تشخيص دقيق لما هي عليه الأمور، والأسباب أتينا عليها أكثر من مرّة، بل وركّزنا عليها في فهم أبعاد الأزمة الداخلية الإسرائيلية مع اندلاع الحرب وأثنائها.
معركة «اليمين» الإسرائيلي في الواقع القائم اليوم في الدولة الصهيونية هي بكل المعاني معركة مصيرية، وهي معركة ابتلاع الدولة القديمة الليبرالية كما عرفناها.
إذا سقطت هذه الحكومة، أو إذا انهارت من الداخل «اليميني»، أو من خارجه، فإنّ كل ما «أنجزه» سيطير ويتبخّر مع أوّل انتخابات قادمة حسب كل استطلاعات الرأي في دولة الاحتلال، وسقوط «اليمين» في هذه المرحلة سيعني أن عودته ستتحوّل إلى نوعٍ من المستحيل السياسي، وأنّه سيتشظّى لا محالة في ضوء تاريخه الأسود في «الإصلاحات القضائية»، وفيما وصلت إليه دولة الاحتلال من حضيض سياسي في العالم كله، وفيما لحق بهذه الدولة من عار، وفيما انهار منها من رواية وسمعة واقتصاد ومكانة ودور، على الرغم من كل ما تدّعيه قيادات «اليمين» من «إنجازات» كبيرة.
فإذا بقيت قوات وأسلحة «حزب الله» على ما هي عليه الآن، وهي باقية، وإذا ما بقيت «حماس» جزءاً لا يتجزّأ من المشهد الفلسطيني في القطاع، ومن المشهد الوطني العام، وهي باقية، وإذا بقيت «أنصار الله» الحوثيين بكلّ ما لديها من مواقف وإمكانيات، وهي باقية، فإنّ الإنجاز الأكبر والأهمّ الذي بقي لدولة الاحتلال هو الإنجاز على الجبهة السورية، وهو الإنجاز الوحيد على كل حال الذي ليس لجيش الاحتلال أيّ «شرف» في الوصول إليه، وهو الإنجاز الذي تمّ من خارج فعله وإرادته!
ذهاب «اليمين» إلى انتخابات بالإنجاز السوري هو عنوان فشل، وكل الادعاءات الإسرائيلية بإنجازات من خارج منطق الإبادة والتدمير والقتل والتطهير العرقي ادعاء فارغ، لا يقدّم خطوةً جوهرية واحدة لا إلى الأمن «القومي» الإسرائيلي، ولا لـ»الشرق الأوسط الجديد» الذي يتحدث عنه نتنياهو.
أما ترامب الذي هدد بأن يأتي الجحيم على رؤوس المقاومة إذا لم تستجب لـ»الحل»، فهو لا يملك شيئاً يفعله على الإطلاق، وتهديداته ليست سوى إحدى أدوات «النصب» التي لديه.
فهو يعرف أنّ نتنياهو سيوافق على صيغة ما، وهو يضغط الآن لكي يضغط الوسطاء على «حماس» ليس أكثر.
هنا لا توجد لا جنّة ولا جحيم، وكل ما يوجد هو أن ترامب إذا حصلت الصفقة، وامتدت التهدئة إلى عموم الإقليم سيدعّي أنّ تهديداته هي التي أنتجت الصفقة والتهدئة، وكل ما يأمله الآن هو ألا يضطرّ إلى الوقوف عارياً في أوّل وقفة شرق أوسطية للإدارة الجديدة.
الحرب الإبادية لم تنتهِ بعد، واستئنافها يوازي توقفها في حساب الاحتمالات، والمراهنة أو الاحتكام لما وعلى ما يقوله «اليمين» الإسرائيلي هو أكبر أخطاء السياسة، وأسوأ أنواع «وعي» الهزيمة أو الشعور بها.
ما رأيك؟
رائع0
لم يعجبني0
اعجبني0
غير راضي0
غير جيد0
لم افهم0
لا اهتم0