تقول مؤسسة الحرب الإسرائيلية، إن قطاع غزة تحول الآن إلى ساحة ثانوية بعد السيطرة العسكرية عليه، وعودة 90% من مهجري غلاف غزة الإسرائيليين إلى بيوتهم، مع أن عمليات إبادة وتهجير وترويع المواطنين ما زالت مستمرة، كما تتعرض قوات الاحتلال إلى عمليات مقاومة مستمرة.
يترافق ذلك مع انتقال مركز ثقل الحرب إلى جبهة حزب الله.
من الناحية الفعلية صادقت حكومة الحرب على الخطط العملياتية وباشرت بشن هجمات مكثفة بالطيران في الجنوب والبقاع، وكانت الهجمات الأخطر هي التي استهدفت وسائل الاتصال – آلاف أجهزة البيجر واللاسلكي – التي يحملها مقاتلو حزب الله، والهجمة التي استهدفت اجتماعاً لقيادة قوة الرضوان في الضاحية الجنوبية وأدت إلى استشهاد قائدها إبراهيم عقيل وبعض مساعديه.
تصعيد إسرائيلي شرس غير مسبوق في لبنان مغلف بهدف إعادة 100 ألف مهجر إسرائيلي إلى بيوتهم في الشمال وإبعاد قوات حزب الله إلى ما بعد الليطاني.
وبدأت القوات الإسرائيلية بتهجير آلاف اللبنانيين وتدمير منازلهم في مسعى لإيجاد شريط آمن.
المؤسسة الإسرائيلية تستعرض قوتها التدميرية عبر أحدث الأسلحة وتتغنى بمهاراتها الاستخبارية وتحولها إلى أعمال مفاجئة بهدف النيل من الروح المعنوية لمقاتلي وقاعدة حزب الله الجماهيرية في لبنان.
الحرب في حلقتها اللبنانية تطرح دور محور المقاومة الذي تتزعمه وتقوده إيران. وبمعنى آخر تطرح الاستراتيجية الإيرانية في الصراع مع إسرائيل.
منذ اليوم الأول للحرب التي أعقبت عملية طوفان الأقصى، بدا محور المقاومة مرتبكاً وقد آثر عدم الالتزام بوحدة الساحات، حيث تُركت الساحة الفلسطينية تواجه آلة الحرب الإسرائيلية وحدها.
ولم تترك عمليات الإسناد والمشاغلة التي بادر إليها حزب الله والحوثيون والحشد الشعبي العراقي بصماتها على معادلة الحرب في غزة التي بقيت في مركز الاستهداف الإسرائيلي 11 شهراً، وأدت إلى تدمير القطاع وتهجير سكانه من مكان إلى مكان وبشكل مستمر.
كان كعب أخيل محور المقاومة هو الموقف الإيراني الذي بقي معتمداً على الفصائل المسلحة فقط. فلم تشارك إيران في الحرب ولم تعمل على تطبيق وحدة الساحات التي ساهمت في بنائها ودعمها وإخراجها إلى حيز الوجود.
خلافاً لذلك، ومع استعار الحرب صدرت عن المرجعية الدينية والسياسية خامينئي فتوى تبرر التراجع التكتيكي في الوقت الذي يتم فيه خطب ود أميركا من قبل الرئيس الجديد مسعود بزشكيان بالقول إن الأميركيين والإيرانيين إخوة ولا عداء بينهم.
كما عبرت إيران عن رغبتها بعدم توسيع الحرب، وعن رغبتها في استئناف المحادثات حول الاتفاق النووي السابق، وعن طموحها إلى السلام.
إذاً، الجمهورية الإسلامية غير معنية بالمشاركة في الحرب وقد أخلفت وعدها بالانتقام لعملية اغتيال إسماعيل هنية في عقر دارها – حتى الآن – وغير معنية بتحول الحرب في لبنان من مستوى تكتيكي إلى استراتيجي، في الوقت الذي تستفرد فيه آلة الحرب الإسرائيلية بقطاع غزة، وتنتقل للاستفراد بحزب الله عبر مئات الغارات الجوية.
لا يمكن الجمع بين التبريد الإيراني للحرب والتصعيد الإسرائيلي ضد أهم عناصر محور المقاومة – حزب الله -.
هذا التناقض يضع إيران أمام خيارين، الأول: المشاركة في الحرب على قدم المساواة مع حزب الله وحماس والحوثيين والحشد الشعبي وتجسيد شعار وحدة الساحات على الأرض، وما يعنيه ذلك من تعريض إيران لخسائر قد يكون المفاعل النووي أهمها. الخيار الثاني: العمل على وقف الحرب على جبهة حزب الله، والتوصل إلى اتفاق مرجعيته قرار مجلس الأمن 1701 الصادر العام 2006.
وقف الحرب في هذه الحالة يتضمن وقف إسناد غزة وفك الارتباط مع الجبهات الأخرى، وما يحتمله ذلك من إضعاف محور المقاومة وإصابة جمهوره وبخاصة اللا طائفي بالإحباط.
ويبقى احتمال صمود حزب الله في حرب استنزاف واحتماله لخسائر شديدة، وتسببه في خسائر كبيرة للمجتمع اللبناني طوال الفترة المتبقية لانتخابات الرئاسة الأميركية، وانتظار إبرام صفقة في غزة بسقف الخطة الأميركية الإسرائيلية وصفقة في لبنان بسقف القرار 1701.
كل الخيارات النابعة من الاستراتيجية الإيرانية خاسرة بتفاوت، والسبب يعود إلى ميزان القوى العسكري والاقتصادي والاستخباراتي المختل بمستوى فادح لمصلحة إسرائيل.
والسؤال، ألم تعرف إيران وحلفاؤها بهذا الاختلال مسبقاً ؟ وإذا كانت تعرف لماذا دفعت فصائلها للتورط في حرب لا طائل منها؟
لا شك في أن القيادة الإيرانية تعرف ذلك، ولهذا اتبعت سياسة ما يسمى الصبر الاستراتيجي الخاص بها.
غير أن الخلل الأكبر في الاستراتيجية الإيرانية ومحورها، هو افتقادها إلى أهداف سياسية قابلة للتحقيق وتلبي مصالح الشعوب التي تنتمي لها فصائل المحور.
إيران تقدم خطاباً شعبوياً مغلفاً بالأيديولوجيا – الحتمية الدينية -.
يقول مساعد قائد الحرس الثوري محمد رضا: يجب أن يُمحى النظام الصهيوني من على وجه الأرض، هذا النظام ليس له أي سبيل سوى الزوال الكامل.
ووعد بأن الرد على إسرائيل سيكون أبعد من التوقعات. من نصدق، المرشد الأكبر ورئيس الجمهورية ووزير الخارجية والمندوب الإيراني في الأمم المتحدة الذين يتحدثون عن التراجع التكتيكي، والأخوة الأميركية الإيرانية، وعدم توسيع الحرب، والتوجه نحو السلام، أم نصدق نائب قائد الحرس الثوري وفيلق القدس.
عنصر القوة الذي دخلت منه إيران إلى شعوب المنطقة هو سياسة التنكر الأميركي الإسرائيلي لحل القضية الفلسطينية والتسليم العربي الرسمي بهذا التنكر.
من هذا الفراغ قدمت إيران المقاومة كبديل، ونجحت في بناء محور المقاومة لا للخلاص من الاحتلال وتمكين الشعب الفلسطيني من تقرير مصيره كهدف قابل للتحقيق ولو تأخر، وإنما لمحو إسرائيل الهدف الذي يؤدي في حال محاولة تطبيقه، إلى محو مضاد، محو قطاع غزة وشمال الضفة وجنوب لبنان وغير ذلك.
إيران تعرف أكثر من غيرها أن محو دولة نووية مدعومة بكل القوة الأميركية والغربية مستحيل، وتعرف أن تقديم حل للقضية الفلسطينية خارج الشرعية الدولية هو مجرد خيال. ولأن إيران تعرف علاقات القوة فإن استخدام الشعارات والأهداف المستحيلة والتضحية بقوى وشعوب ودول محور المقاومة له وظيفة واحدة هي استخدام المحور لتحسين موقعها الإقليمي وقتما يحين إبرام الصفقة.
الحرب دائماً تكشف المستور وتضع النقاط على الحروف. وهذا يطرح سؤالاً مفاده، إلى متى يبقى التعويل على البديل الإيراني والاستحقاقات التي تطلبتها العضوية في هذا المحور، كالانقسام داخل المجتمعات وإقصاء الدولة عوضاً عن تطويرها، وشطب الحريات العامة والفردية والديمقراطية من أجندات المقاومة.
وإذا كان ميزان قوى الحرب سيفرض تنازلات على محور المقاومة، أليس من الأجدر تراجع قيادات المقاومة الطوعي للشعوب التي ذاقت الأمرين جراء استراتيجية المحور، كالتراجع عن سياسة التنكر للدولة أو للشرعية، في الحالة اللبنانية، التنازل عن تعطيل انتخاب رئيس الجمهورية، والذهاب إلى انتخابات لا طائفية، والقبول بلجان تحقيق حول دور المصارف ومقتل الحريري وانفجار المرفأ وغير ذلك.
وفي الحالة الفلسطينية، انتقال حركة حماس من الدفاع عن سلطتها بأي ثمن، إلى الدفاع عن شعبها بكل ما تبقى من قوة، وانضمام حركة حماس إلى الـ 150 دولة التي تعترف بالشرعية الفلسطينية، والأهم من كل ذلك الانفكاك عن الاستراتيجية الإيرانية عديمة الجدوى.