“هوام” منصات التواصل.. عن الاستسهال وثقافته

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

تمنحنا بعض الظواهر العابرة الهائمة على منصات التواصل غناءً ورقصًا وكلامًا، وأحيانًا ترخصًا شيئًا عن بعضٍ من سلوكيات وثقافة عشوائية تنشأ على ساحات التواصل وتجتذب إلى شراكها بعض المستسهلين في سعى الحياة، وهم يظنونه قطفًا سريعًا وقفزًا، سنلحظ شيئًا عن دور بات معروفًا لمنصات بعينها في إتاحة تواجد وتيسير حضور وإشاعة لتلك الاستخدامات مفرطة الإساءة سلوكًا وجوهرًا وقيمًا منافيةً ليس فقط لحق الأطفال والصغار والقاصرين في تنشئة سليمة، بل ولشروط الكرامة الإنسانية جميعها أحيانًا.

هذا الأمر ربما يستدعي مخاطبة مسؤولي وأصحاب تلك المنصات العالمية -الذين دأبوا على تطبيق أفكارهم وتوصياتهم حينما يرغبون- بضرورة تطبيق الكود العالمي؛ لمنع تداول أفكار تحرض على الاتجار بالبشر، وتمنع ظهور القاصرات على منصاتهم سلبًا وإساءة لصورة ودور المرأة عالميًا، سيكون ذلك مناسبًا وملائمًا وقانونيًا أيضًا، ومجال توثيق للحق المجتمعي -لكل مجتمع- في وقف تعمد تغذية تلك المنصات لظواهر مسيئة قيمًا وثقافةً وممارسةً في حق الإنسان، وفي مجال حقوق المرأة والفتاة والإنسانة في كل العالم، وحيث يتكامل ذلك بالضرورة مع جهود مجتمعية تعني بها مؤسسات معنية بترشيد وتثقيف الشباب في مواجهة خطر تمدد تلك الظواهر وإغراءات دخول مجالها.

إن تبنى ذلك من شأنه أن يضاد ويوقف ثقافة عشوائية تنمو باضطراد على هواء منصات التواصل، ويحول دون انخراط قطاع من شبابٍ يستسهل حضوره عليها “مشينًا”، انطلاقًا من مبرر سهل مغلوط، أن ذلك وسيلة سهلة للحياة والكسب، وما يصاحبهما من شهرة، في وقت تزيد فيه تحديات الحياة تنوعًا، وما يتطلبه ذلك من إعداد أجيال من فتيات وفتيان يعون بمركزية دور بلدهم في خريطة جغرافيا الكون، وما يستتبعه ذلك من تأهيل لهم ليكونوا قيمًا مضافةً للتنمية، وليس خصمًا منها، ولا استنزافًا لمواردها.

ربما سنجد مظاهر لشيوع نسبي لثقافة وصناعة الاستسهال تلك معًا في اللهاث وراء السهل والمريح والعاجل من الأشياء والأعمال التي تتطلب جهدًا، تدفع ذلك وتدعمه ثقافة المنصات وما يصاحبها من موجات عابرة وجزئية ترد من العالم غربًا وشرقًا، وحيث يظنها البعض مخطئًا وربما جاهلًا أنها التيار الرئيسي للحياة هناك، دون أن يعرف أنها بعض هوامش متون مجتمعات صنعت وأبدعت، وأنتجت وصدرت وربحت وتقدمت، بينما يأخذها البعض على أنها كل الحياة وجوهرها، فلا يرون غير ما تحمله لهم نظرات قصيرة المدى ومباشرة النظرة مختزلة الدلالة من أنها منتهى العيش وسبيل إنجاز وحيد، وهنا تنهض أدوار مؤسسات التنشئة والتثقيف؛ لتكون حائلًا لمنع تكريس تلك التصورات “المضللة”، وسريان تدفقها كأنه الحقيقة أو ما يماثلها، مواجهة لازمة لصناعة وثقافة الاستسهال التي تنشأ بغتة، ثم تنمو مسرعة إن لم تجد وعيًا ومقاومة وتفكيكًا لمفاهيمها وترسيخًا للنقيض المثمر.

ومثل كل ظواهر ونتاجات الحياة الحديثة التي تترى وقائعها في هذا الكون، يمكن أن يكون للاستسهال ثقافته ومحترفوه، وأيضًا صناعته التي تتأسس على أفكاره وتيارات دفعه وتنمية ظهوره ونموه، ثم متكسبوه الأصليون، وخلفهم جموع الهواة الطامحين المندفعين في غي، سيمكنك أن تتأمل هذا أيضًا في أي مجال عمل ومهنة لا يعمل بقواعد احترافية منظمة وموثقة وصارمة، ولها تقاليد وأيضًا كتالوج مواصفات صناعة واشتراطات تميز، وحيث يحسب من ينخرطون في تلك العشوائيات الثقافية -أولئك الهواة المتسرعون- أنها وفقط مهاراتهم الفذة التي يظنونها بأنفسهم ولو كانوا لم يتعلموا ولم يراكموا ممارسة مهنية ووعيًا، بينما يظنون وهم يهيمون على ساحة منصات التواصل الاجتماعي أنها سببٌ للحياة ووسيلة للعيش، ولو كانت ظنًا وسرابًا وإفكًا، ويعرضون عن الجاد والحقيقي اكتفاءً بها عن خبرة العلم والتعلم والعمل، يحسبونها حياة وما هي بحياة.

سيكون جزءًا مهمًا من تفكيك ظاهرة هوام منصات التواصل صخبًا ورقصًا وغناء وأداءً منافيًا لما هو متعارف عليه من التقاليد والأخلاق والقانون، هو في تجذير قيم وممارسات الجد والدأب والاجتهاد وترويج نماذجها ورعاية المواهب عبر مؤسسات مختصة، ترتبط باستراتيجية التحول والتنمية، وتؤكد على مرتكزاتهما، وتعمل على تدفق تيارات الوعي بالأهمية الذاتية والمجتمعية، والإضافة لكل عمل نافع كهوية ومقصد.