جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
كان صوت نداء الجد الريفي طويل القامة هادئ القسمات يأتيه فيسرع نحوه ملبيًا، وكان ذلك كما يستقر في وعيه الزمني في منتصف السبعينيات، يفرد الرجل بحركة أنيقة مظلته البيضاء بينما ينطق باسم الحفيد بالفصحى الجميلة المفخمة فينتشي الطفل، تستقر يده مطمئنة في يد الجد وهما يسيران سويًا في اتجاه الحقل، وكما يحدث كل صباح في أيام الإجازة الصيفية التي يقضيها الطفل في دار الجد ذات الشرفات العلوية المفتوحة على فضاء يرى منه الحقول وكل أرجاء القرية التي تحمل ما زالت أثرًا من اسم فرعوني قديم وتستقر وديعة في دلتا النيل.
لم يكن الجد قد تلقى تعليمًا نظاميًا، لكنه كان يحب الشعر وينثر كل صباح في صحبة الطفل بعض أبيات في بلاغة بينما يسيران، كان الرجل يشبه ما عرفه بعد ذلك من وصف “المتنورين” أولئك الذين زادتهم الحياة وتجاربها معارف وفلسفات استقرت طائعة سائغة غير متكبرة في سلوكهم، لا يتفاخرون تعاليًا في فرحٍ وغرورٍ عن نعمة منحها الله لهم، كان الرجل أيضًا يدرك أهمية أن يمنح لابنه والد الحفيد التعليم الجامعي وما قبله في زمن خلا من مجانية التعليم، وكان ابنه ربما هو وآخر هما الشخصان الوحيدان في عمرهما في ذلك الزمان البعيد جدًا ممن تلقيا تعليمًا جامعيًا في القرية الصغيرة، لم يحرص الجد كما كثيرون أن يلتصق به ابنه مزارعًا في أرضه، وفضَّل أن يدعه ينطلق في فضاءٍ جديدٍ رأى أهميته تعليمًا ودراسة وإن اضطره ذلك لمفارقته وسفره، ثم الاستقرار في العاصمة بعيدًا عن القرية وعنه وهو الابن الوحيد.
يجلس الجد وإلى جواره الحفيد في الصباح المبكر قبل الرحلة اليومية هذه نحو “الغيط”، وتتعدد أمامهما في حفاوة أطباق اللبن الرائب والقشدة والجبن القريش والبيض الذهبي اللون من تقلبه محببًا في الزبد على “منقد” يتوسط جلستهم الدائرية تشتعل في وسطه هينة قوالح الذرة فتطرقع حبيبات الزبد في فضاء الهواء بهية، بينما يتقلب فيها البيض وإلى جوارها يستقر براد شاي نحاسي يتمهل في غليانه، وهو موضوع على الطرف الهين من نيران “المنقد”.
توضع أكواب اللبن للأحفاد والحضور متراصة دائريًا على صينية واسعة، وكان الطفل يتهرب منفلتًا من تلك اللحظة، بينما تصر أمه على ضرورة أن يشرب كوب اللبن الكبير كل صباح حاملة معها تنبيهًا مكررًا جزءًا من تفاصيل الحياة تنقله معها من بيتهم في المدينة إلى حيث هنا، حريصة على إتمام الطقس وحتى لا يتهرب الابن من اكتمال مقومات نموه وصحة عظامه والتي يأتي اللبن على رأس متطلباتها كما قرأت الأم، وكما سمعت في برامج الإذاعة التي لا تسكت أبدًا عن الدوران في بيتهم القاهري.
كان الجد يدير الموقف بما يمنع التوترات محققًا بهجة الجميع، فيطمئن الأم أن الطفل سيشرب وفي رعايته، ثم يحاول في البدء مع الحفيد ودودًا، ولما كان هذا الحفيد يعلم شغف الجد به فإنه كان يقول له في توسلٍ مستعطفٍ أنه لا يحب اللبن، وكان الطفل لا يبالغ قط، فعندما يضطر ويقترب الكوب من فمه وتتسلل رائحة اللبن الطازجة إلى أنفه تصيبه رغبة القيء فورًا، أدرك الجد ذلك، ولم يكررها مع الطفل، وكان يرتشف هو بديلًا عن الحفيد الكوب على ثلاث مرات متتالية على مدار جلسة الإفطار، فتطمئن الأم كلما مرت بأن الأمور تسير كما تريد ويسعد الجد بمرأى الحفيد مبتسمًا، ثم يتابعه وهو يأكل في تلذذ حبات البيض الطازج الذي ينطبع على بياضه درجات اللون المحببة المختلفة وتقرمش بعض مناطقه في الفم سائغة.
يلجأ إلى الجد بعض الناس طلبًا للمشورة والتماسًا لأشياء عديدة، حيث لا تخلو منهم الدار في الصباح المبكر أو في جلسة الحقل بعد العصر، لم يشاهد الطفل كثيرًا الجد يقوم بعمل الفلاحة والزراعة ومقتضياتهما اليومية بانتظامٍ، وكما كثير من أسر العائلة وبيوتها في أرضها وحقولها المتجاورة، كان الجد يجيد ذلك لا شك حتى أنه كان يراه يقوم في مرة أو أخري ببيان وتوضيح لبعض من يعملون، وكان الجد قد اختار طريقته بأن منح مساحة من أرضه وجزءًا من حجرات داره لأسرة تتولي شئون زراعته مقابل أن تحصل على كامل عائد تلك المساحة المحددة ومقتضيات العيش الكامل في الدار، كان ذلك قبل صدور قوانين الإصلاح الزراعي بزمان وبينما كانت أرض الجد قبل وبعد ذلك لا تنطبق عليها بأي حال تلك القوانين، عاش هذا الاتفاق في حياة الجد واستمر بعد مماته عقودًا مستقرًا، أقامت تلك الأسرة في الدار وكبرت مع قاطنيها وصارت مع الوقت بعضًا من الأهل الطيبين.
كان يزين جدار الدار الخارجي نقش ملون زاهي جميل على خلفية من الجير الأبيض لسفائن وجريد نخيل وكلمات بخط كوفي بهي تجسد تاريخًا قديمًا حفظت رسومات الجدار ملامحه عقودًا لرحلة سفر الجد إلى الحج في ثلاثينيات القرن العشرين.
في كل زيارة للقرية كان الطفل يظن أن الناس هناك لا يمرضون أبدًا، فهو لم يرَ أحدهم يذهب إلى الطبيب أو تتم زيارته في مرض -هكذا كانت ملاحظته البدائية- ومع الوقت أدرك شيئًا ما هو أن الناس في القرية إما يتوفون مبكرًا تمامًا من أثر المرض حين يصيبهم أو يعمرون فيعيشون بلا مرض مصاحب يتحرك معهم عبر الزمن مؤرقًا، هل تبدو طريقة رحيمة للعيش؟!.
لم تكن هناك أجهزة تواصل في القرية وخارجها، وكان اقتضاء إبلاغ قاطني المدينة بخبر أو نبأ طارئ هو برقية التلغراف، والتي تقتضي ذهابًا إلى مركز المحافظة ومعها إجراءات ووقت يقل عنهما كثيرًا أن يبادر أحدهم بالسفر إلى مقصد من يرغب في إبلاغه، وكان أهمها الإبلاغ بالوفاة، وتم اختصاص أحد أبناء القرية المتعلمين بتلك المهمة الثقيلة بأن يصل قرب الفجر إلى بيوت القاطنين في المدينة؛ ليحمل النبأ الصعب، أما لماذا في الصباح المبكر فلأن القرية تنغلق بها طرق السفر والارتحال بعيدًا عنها في أوائل المساء، وذلك عدا الذهاب إلى القرى المجاورة -التي تستخدم فيها ركوبات الحمير بسروجها المجهزة- ومع انتهاء موعد القطار الأخير.
كان صوت الرجل المكلف بذلك يعلو أسفل المنزل بعد الفجر؛ ليكون نذير شؤم وحزن، يرافقه ترقب يطل من السؤال: من؟ متبوعًا بـ”استر يا رب”، كان الرجل يدرك صعوبة مهمته، وكان يقوم بها متطوعًا وكريمًا ونوعًا من أداء الواجب لا يقوم به سوى من قدره الله عليه، وهكذا وعبر صوته ينطوي حضور البعض في سجل الأحياء.
وفي ذلك الصباح المبكر وفي يوم من شهور الصيف الثقيلة -يعرف الآن لماذا كرهها دوما-أدرك حين جاء النداء عاليًا يتكرر من أسفل المنزل أن شخصًا “كبيرًا” أحبه كثيرًا قد غاب، وأن المكان وصيرورة الأشياء في دار جده قد فقدت عاديات بهجتها، وأخذت معها ألق أشيائها وطيبة ألفتها، وأنه أبدًا لن تعاود الأيام وتيرتها سائغة هنيئة بعد ذلك.