لم تكن شركة مايكروسوفت مقتنعة بثورة الإنترنت القادمة خلال فترة التسعينيات، فبدلًا من تطوير منتجاتها وتقديم منتجات جديدة لاستخدام الإنترنت مثل: محرك للبحث، قررت تقديم موسوعة (إنكارتا) Microsoft Encarta في عام 1993، وهي عبارة عن موسوعة رقمية للوسائط المتعددة قدمتها على (قرص مضغوط) CD-ROM، أو DVD، وكانت هذه الموسوعة تضم 62 ألف مقال، بالإضافة إلى العديد من الصور الرسوم المتحركة، والمقاطع الصوتية، والخرائط، ومقاطع الفيديو.
في حين قدمت متصفح (إنترنت إكسبلور) Internet Explorer في عام 1995، وتأخرت للغاية في تقديم محركها للبحث إذ أطلقت محرك (بينج) عام 2009 – وهو العام الذي أوقفت فيه موسوعة (إنكارتا) – بينما اختبر (لاري بيدج) و (سيرجي برين) الإصدار الأول من محرك البحث الخاص بهما – الذي أطلق عليه اسم (BackRub) – في أغسطس 1996 عبر شبكة جامعة ستانفورد، ثم في عام 1998 غيروا اسمه إلى جوجل وأُطلق للمستخدمين.
أدت هذه الخطوة التي اتخذتها مايكروسوفت في بداية التسعينيات إلى تأخرها في سوق متصفحات الويب ومحركات البحث للغاية، بينما هيمنت جوجل على هذين السوقين بقوة على مدار أكثر من عقدين ولا زالت هكذا حتى الآن.
ولكن مايكروسوفت قررت تغيير كل هذا الآن باستخدام الذكاء الاصطناعي، ولكن كيف تتقدم مايكروسوفت على جوجل في مجال الذكاء الاصطناعي وجوجل قد سبقتها أيضًا فيه، وهل يمكنها ذلك؟
أولًا؛ متى بدأت جوجل الاستثمار في الذكاء الاصطناعي؟
موضوعات ذات صلة بما تقرأ الآن:
بدأت قصة جوجل مع الذكاء الاصطناعي عام 2014 عندما استحوذت على (Deepmind) مختبر أبحاث الذكاء الاصطناعي البريطاني، وأصبح شركة فرعية مملوكة بالكامل لشركة (ألفابت) Alphabet – الشركة الأم لجوجل – بعد إعادة هيكلة شركة جوجل في عام 2015.
أنشأت شركة (DeepMind) شبكة عصبية تتعلم كيفية لعب ألعاب الفيديو بطريقة مشابهة لتلك التي لدى البشر، بالإضافة إلى شبكة عصبية قادرة على الوصول إلى ذاكرة خارجية مثل: آلة تورينج التقليدية، نتج عنها حاسوب يحاكي الذاكرة القصيرة المدى للدماغ البشري.
وقد تصدرت DeepMind عناوين الصحف في عام 2016 بعد أن تغلب برنامج (AlphaGo) الذي طورته على (لي سيدول) Lee Sedol بطل العالم في لعبة (Go) الصينية بنتيجة 4-1.
وقد أظهر ذلك وقتها أن جوجل ستحتكر أيضًا ثورة الذكاء الاصطناعي القادمة، ولكن ذلك لم يعجب (سام ألتمان) Sam Altman أهم مستثمر في المجال التقني آنذاك، ورئيس شركة (Y Combinator) واحدة من أهم الشركات الاستثمارية في وادي السيلكون.
لذلك أسس (ألتمان) شركة (OpenAI) بالشراكة مع مجموعة كبيرة من المستثمرين في مجال التكنولوجيا، من بينهم: (بيتر ثيل) Peter Thiel، وإيلون ماسك، وريد هوفمان أحد مؤسسي LinkedIn، وغيرهم، الذين تعهدوا بتقديم مليار دولار لإنشاء منظمة غير ربحية تركز على تطوير الذكاء الاصطناعي بالطريقة التي من المرجح أن تفيد البشرية ككل.
أطلقت شركة (OpenAI) مجموعة من منتجات الذكاء الاصطناعي خلال الفترة من 2015 إلى 2019. إذ أصبح ألتمان الرئيس التنفيذي لشركة OpenAI في مايو 2019 بعد أن تحولت من كونها شركة غير ربحية إلى شركة (ذات أرباح محدودة) Capped profit، وكان أول قرار أخذه هو مشاركة شركة مايكروسوفت التي لم تحقق أي إنجازات كبيرة في مجال الذكاء الاصطناعي بعد.
وبالفعل؛ حصلت شركة OpenAI على استثمار بقيمة مليار دولار من مايكروسوفت في عام 2019، وبعد ذلك بدأت شركة OpenAI بالتركيز بشكل أكبر على تطوير معالجة اللغة الطبيعية.
ونتيجة لهذا التركيز أطلقت شركة OpenAI أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي الشهيرة، وهي: DALL-E و ChatGPT التي حققت نجاحًا كبيرًا. ودفع هذا النجاح مايكروسوفت إلى زيادة استثماراتها في شركة OpenAI لتصل إلى 10 مليارات دولار، وتعمل حاليًا على إدماج إمكانيات ChatGPT في كافة منتجاتها تقريبًا.
ثانيًا؛ على ماذا تراهن مايكروسوفت خلال الفترة القادمة؟
تراهن مايكروسوفت على سوق محركات البحث، إذ تدفع بكل قوتها في تطوير محرك بحثها اعتمادًا على الذكاء الاصطناعي، ويرى (ساتيا ناديلا) الرئيس التنفيذي لشركة مايكروسوفت أننا أمام عصر جديد لمحركات البحث بفضل الذكاء الاصطناعي التوليدي.
قال (ساتيا ناديلا) يوم 7 فبراير 2023: “لقد بدأ السباق اليوم، سوف نتحرك بسرعة، وكل يوم سنخرج أشياء جديدة”. ويعد هذا تحديًا صريحًا لشركة جوجل التي تتحرك في مجال الذكاء الاصطناعي التوليدي ببطء تخوفًا من العواقب.
تعمل شركة مايكروسوفت حاليًا على إدماج الذكاء الاصطناعي في كافة منتجاتها تقريبًا، إذا أعلنت أمس عن تحديث جديد لنظام ويندوز 11 دمجت فيه ميزة الدردشة لمحرك بينج الجديد في شريط المهام لنظام التشغيل.
وخلال الأسابيع الثلاثة الماضية؛ أطلقت إصدارًا مُحدثًا من ChatGPT في محركها للبحث بينج ومتصفح إيدج (Edg) للمعاينة، ثم أطلقت تطبيق محرك البحث بينج ومتصفح إيدج للأجهزة المحمولة، بالإضافة دمجه في تطبيق التراسل سكايب.
ثالثًا؛ مايكروسوفت تعلمت الدرس بطريقة صعبة:
كانت شركة مايكروسوفت في يوم من الأيام القوة المهيمنة في سوق التكنولوجيا الشخصية، وذلك بفضل نظام التشغيل ويندوز وشعبية برامج (أوفيس) Office الخاصة بها. في أواخر التسعينيات، استفادت من ذلك في سيطرتها عل حصة سوقية كبيرة في سوق متصفحات الويب عن طريق متصفح الويب (Internet Explorer) على الرغم من التقدم لشركة (Netscape) التي حاولت مايكروسوفت الاستحواذ عليها.
ولكن في تلك المرحلة، تدخلت الجهات التنظيمية في الولايات المتحدة وأوروبا للقضاء على احتكار شركة مايكروسوفت، لذلك أصبحت الشركة أكثر تحفظًا في ممارساتها التجارية بعد أن أمضت عقدًا من الزمن في خوض معارك مكافحة الاحتكار في الولايات المتحدة وأوروبا.
تحت قيادة ساتيا ناديلا؛ الذي أصبح الرئيس التنفيذي للشركة في عام 2014، ركزت الشركة بشكل كبير على خدمات الأعمال، إذ ركزت على الخدمات السحابية وقد أدى ذلك إلى تعزيز مكانة مايكروسوفت في السوق في السنوات الأخيرة، إذ تحتل المركز الثاني في سوق الخدمات السحابية، حيث تستحوذ خدمتها السحابية (Azure) على نسبة 21%، في حين تأتي جوجل في المركز الثالث بنسبة 11% فقط.
ولكن مايكروسوفت فقدت هيمنتها على سوق تكنولوجيا المستهلك في السنوات الأخيرة، فهي في هذا السوق لا تقدم سوى (Xbox)، وحواسيب Surface، في حين لم تنجح في سوق الهواتف الذكية كما نحجت جوجل بهواتفها Pixel.
بالنسبة لشركة مايكروسوفت يبدو أن حرق الأموال لإيذاء المنافسين هو الهدف الحالي، إذ أنفقت الشركة مليارات الدولارات في الأيام الأولى من محاولة تطوير محرك Bing للتنافس مع جوجل، وقد تكون هوامش الربح المنخفضة تكلفة مقبولة للحصول على فرصة الفوز بحصة سوقية كبيرة في النهاية.
وقد صرح (ساتيا ناديلا) في مقابلة مع موقع (The Verge) أن الشركة ترى أن هذه فرصة نادرة لتغيير توازن القوى في التكنولوجيا وهي على استعداد للإنفاق لإلحاق الضرر بأكبر منافس لها.
رابعًا؛ هل يمكن أن تفعلها مايكروسوفت وتعيد أمجادها؟
تتميز مايكروسوفت الآن بتقدمها في مجال الذكاء الاصطناعي التوليدي الواسع بفضل استثمارها في شركة OpenAI، وقد تكون سبقت شركة جوجل بخطوة في هذا السوق حتى الآن.
ولكن جوجل تأخد خطواتها الآن بحذر، كما يوجد منافسون آخرون، مثل: You.com، و Neeva يقومون يقوم ببناء محركات بحث قائمة على الذكاء الاصطناعي من الألف إلى الياء.
كما أن جوجل لديها البيانات ومحرك البحث الأكثر شيوعًا، لذلك يرى المحللون أن جوجول ستتجاوز مايكروسوفت على المدى الطويل ولا ينبغي الاستهانة بها. ونظرًا إلى تاريخ جوجل الطويل في تطوير الذكاء الاصطناعي، وصف المحللون فكرة أن جوجل تحاول اللحاق بالركب في حرب الذكاء الاصطناعي أنها ساذجة، لأن جوجل سبقت الجميع في معالجة اللغة الطبيعية ولديها النموذج اللغوي الكبير الذي يُسمى (LaMDA) والذي ظهر قبل سنوات من ChatGPT.
لذلك فتقدم مايكروسوفت حتى الآن يُعد تقدمًا تسويقيًا وليس تقدمًا تقنيًا، إذ إنها استغلت فرصة النجاح الكبير الذي حققه روبوت ChatGPT، واستثمرتها لصالحها بأفضل صورة حتى الآن.
وقد اتضح ذلك في كيفية تقديم كل من مايكروسوفت وجوجل روبوت الدردشة التفاعلية التابع لها. حتى الآن تختبر جوجل الإصدار التجريبي الأول من روبوت الدردشة التفاعلي (بارد) Bard – المشابه لروبوت ChatGPT – مع مجموعة صغيرة من المختبرين الموثوق بهم، ولم تفتحه لعموم المستخدمين حتى الآن.
في حين تقول مايكروسوفت إنها أطلقت محرك البحث بينج الجديد المدعوم بالذكاء الاصطناعي بصورة تجريبية لأكثر من مليون شخص في 169 بلدًا، ودمجته في معظم منتجاتها، ابتداءً من ويندوز 11 وحتى سكايب. كما أن مديرها التنفيذي ساتيا ناديلا واثق للغاية في حديثه عن تقنيات الذكاء الاصطناعي التي تعمل عليها الشركة، ويعترف بوجود أخطاء سيرتكبها الروبوت، لكن الأمر لا يُخيفه أو يُخيف شركته، لأنه في النهاية يريد أن يكسب ميزة الهجوم الأول في الحرب.
الخاتمة:
من الواضح حتى الآن أن روبوت ChatGPT قد أشعل حربًا في مجال الذكاء الاصطناعي التوليدي، ولكن جوجل لم تكن على استعداد لدخولها الآن، في حين وضع الروبوت مايكروسوفت في بداية السباق وهي متقدمة بخطوة، لكن الحرب لا زالت في بدايتها وجوجل لديها الكثير الذي يساعدها في التفوق وتحقيق الفوز حسب آراء الخبراء.