ديفيد هيرست: هذه الأسباب تدفع “حماس” لرفض المقترح الإسرائيلي للصفقة

قال الصحفي البريطاني ديفيد هيرست؛ إن تصرفات الرئيس الأمريكي وتماهيه مع الاحتلال الإسرائيلي، والتناقضات بين ما يعلنه من خارطة طريق، وما قدمه الإسرائيليون من مقترح لصفقة، يدفع حركة حماس لرفض كل ذلك بشكل أكيد.

وأوضح في مقال له بموقع ميدل إيست آي، أن توقيع قادة حماس على وثيقة كهذه، سوف يعني أنهم سيرفعون أياديهم في الهواء، ويخرجون من أنفاقهم، ويلوحون براية بيضاء كبيرة. وكلنا نعلم ماذا يحدث للناس الذين يرفعون الرايات البيضاء ويلوحون بها.

ولن تضمن الصفقة لا وقف الحرب، ولا انسحاب القوات الإسرائيلية، ولا عودة مليون فلسطيني مشردين إلى بيوتهم. ولسوف يكون خوض ثمانية شهور من الحرب بلا ثمن.

وشدد على أنه ليس لدى حماس الاستعداد للقبول بذلك، فسواء كانت على صواب أم على خطأ، تشعر الحركة بأنها تكسب معركة الإرادات في غزة، وترى أن الجيش الإسرائيلي على وشك الهزيمة.

وفيما يلي النص الكامل للمقال:

لو كان هناك من يتحمل المسؤولية عن المذابح اليومية التي يرتكبها يوميا الجيش الإسرائيلي الغاضب والمهان، الذي باتت جل كوادره من المستوطنين المتدينين، فإنه رئيس الولايات المتحدة جو بايدن.

منذ الأيام الأولى التي تلت هجوم حماس يوم السابع من تشرين أول/أكتوبر، اعتبر بايدن هذا العمل الهمجي من العقوبة الجماعية بحق 2.3 مليون فلسطيني حربا عادلة.

فهو الذي تزعم القول بأن إسرائيل من حقها أن تدافع عن نفسها. وكان هو الذي قوض المطالبات داخل مجلس الأمن الدولي بوقف إطلاق نار فوري. وكان هو الذي أعاد تزويد إسرائيل باحتياجاتها من القنابل الذكية والصواريخ، كلما نضب مخزونها منها.

وتحت سمعه وبصره، أدارت الولايات المتحدة ظهرها لأعلىِ محكمتي عدل دوليتين

وفي الأسبوع الماضي، قال بايدن في تصريح لمجلة تايم؛ “إن المحكمة الجنائية الدولية شيء نحن لا نعترف به”. لا مفر من أن ترمش مرتين قبل أن تعيد قراءة تصريحه. فهذا الذي يتحدث هو بايدن بالفعل، وليس الرئيس السابق دونالد ترامب.

يقترب عدد من قضوا نحبهم أربعين ألفا، ناهيك عن آلاف الجثث التي ماتزال تحت الركام. كما أن أكثر من نصف المباني في غزة تم تدميرها بالكامل أو أصابتها أضرار مختلفة، بما في ذلك الكثير من المستشفيات والجامعات والمدارس والملاجئ وشبكات المجاري والأراضي الزراعية. لقد أسقطت إسرائيل حتى الآن من القنابل على غزة خلال ثمانية شهور، أكثر مما تم إسقاطه في أثناء السنوات الست من الحرب العالمية الثانية على كل من لندن ودريزدن وهامبورغ.

لقد تم قتل الصف الأول والصف الثاني وقدر كبير من الصف الثالث من الإداريين المدنيين في غزة، بحسب ما قالته لي في الدوحة مصادر فلسطينية مقربة من حماس. قد يستغرق تعافي غزة من هذا الهجوم عدة عقود.

قالت فيوز نيت، شبكة منظومة التحذير المبكر من المجاعة، التي تتخذ من الولايات المتحدة مقرا لها؛ إنه “من الممكن، إن لم يمكن محتملا، أن المجاعة بدأت في شمال غزة في شهر إبريل (نيسان). وبحسب تقديرات الأمم المتحدة، فإن أكثر من مليون شخص، يتوقع أن يواجهوا الموت والمجاعة، بحلول منتصف يوليو (تموز)”.

“خط أحمر” في رفح

لم يكن عجبا أن يفكر ائتلاف من الديمقراطيين –الناخبين العرب والمسلمين والطلاب– في الولايات المتأرجحة، باختيار قضاء السنين الأربع القادمة تحت إدارة ترامب من أجل تحقيق الغاية النهائية، المتمثلة بضمان أن يكون بايدن آخر رئيس صهيوني في حزبهم.

لقد حاول ترامب مرتين وقف الحملة التي يشنها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ذلك الرجل الذي قال عنه رئيس الولايات المتحدة نفسه؛ إنه يشن هذه الحرب من أجل خدمة مصالح سياسية شخصية.

كانت المحاولة الأولى عندما هدد بوقف تزويد إسرائيل بالقنابل الثقيلة إذا ما مضى نتنياهو قدما في عمليته العسكرية في رفح. ومع ذلك، مضى نتنياهو قدما في العملية بهدف الاستيلاء على معبر رفح واحتلال ممر فيلادلفيا. وها هو جيشه يوجد في شرقي رفح، ومن الشرق يستمر في قصف الجزء الغربي بلا هوادة.

في وقت مبكر من شهر مايو (أيار)، أعلن بايدن أن “غزوا كبيرا” لرفح، يعد خطّا أحمر. فما الذي حصل لهذا التهديد، بعد أن غادر رفح مليون فلسطيني؟

عندما سئل كم جثة متفحمة بسبب الضربات الجوية الإسرائيلية ينبغي أن يراها بايدن قبل أن ينفذ ما هدد به، تخبط جون كيربي، المتحدث باسم البيت الأبيض، في الإجابة.

سأله إيد أوكيف، المراسل السياسي لشبكة سي بي إس: “كيف لا ينتهك ذلك الخط الأحمر الذي حدده الرئيس؟ فقال كيربي متلعثما: “كما قلت، نحن لا نريد أن نرى عملية برية كبيرة”.

ولكن هذا هو بالضبط ما تراه يحدث على أرض الواقع يا سيد كيربي.

من الواضح أن نتنياهو لم يأخذ تهديد بايدن على محمل الجد، وتعامل معه على هذا الأساس.

ثم ما لبث أن خرج بايدن على الناس بأداء ثان الجمعة الماضية، بما يوحي أن حزبه يدخل في مواجهة مع إسرائيل. من حيث لم يتوقع أحد، وبما بدا مزعجا لوزارة الحرب الإسرائيلية، أعلن رئيس الولايات المتحدة على الملأ، أنه يلقي بثقل واشنطن خلف “وقف كامل وتام لإطلاق النار”، مصورا ذلك كما لو أنه مقترح إسرائيلي معروض على حماس.

وكانت حماس قبل ذلك ببضعة أسابيع، قد وقعت على وثيقة اتفاق لوقف لإطلاق النار على مرأى ومسمع من مدير المخابرات الأمريكية بيل بيرنز وبموافقة كاملة منه، واشتملت على البنود نفسها بالضبط، إلا أن الحكومة الإسرائيلية انسحبت من الاتفاق، وتبع ذلك إعلان الولايات المتحدة أن الاتفاق الذي تم التوقيع عليه، ما هو إلا عرض مقابل تقدمت به حماس.

وحصحص الحق

إذن، لو أن بايدن كان في الأسبوع الماضي بالفعل يرمي بثقله خلف عرض مطابق تماما، فلا ريب أن ذلك يعد تقدما.

وإليكم ما قاله بايدن في الأسبوع الماضي: “أعلم أن هناك في إسرائيل من سوف لن يتفقوا مع هذه الخطة، وسوف يدعون إلى استمرار الحرب إلى أجل غير مسمى. بل إن بعض هؤلاء موجودون داخل الائتلاف الحكومي. ولقد بينوا بكل وضوح أنهم يريدون احتلال غزة، ويريدون الاستمرار في القتال لسنين، والرهائن ليسوا من أولوياتهم. حسنا، لقد حثثت القيادة في إسرائيل على مساندة هذه الصفقة، وعدم التأثر بالضغوط أيا كان مصدرها. وإلى الناس في إسرائيل، دعوني أقول الآتي: أطلب منكم أن تأخذوا خطوة إلى الخلف، وأن تفكروا بما سوف يحدث لو خسرنا هذه اللحظة. لا يمكننا أن نخسر هذه اللحظة. إن الحرب المستمرة إلى إشعار آخر؛ بحثا عن فكرة “النصر التام” الذي لم تحدد معالمه، لن يفضي سوى إلى غرق إسرائيل في مستنقع غزة، واستنفاد الموارد الاقتصادية والعسكرية والبشرية، وزيادة عزلة إسرائيل في العالم”.

كان يمكن لهذه الكلمات أن تقال بنفس القوة والحزم قبل ثمانية شهور، ولكن في نهاية المطاف ها قد تم التصريح بها.

تسبب خطاب بايدن في حالة من الارتباك داخل وزارة الحرب، واستمرت هذه الحالة لما يقرب من ثماني وأربعين ساعة. وذلك أن بايدن، فيما يبدو، أصدر تصريحين متناقضين.

ثم حصحص الحق: لم تتوافق صفقة وقف إطلاق النار المكونة من ثلاث مراحل مع الوثيقة، التي وقعت عليها الحكومة الإسرائيلية في العديد من النقاط.

وأهم ما في الأمر، هو أن الصفقة، حسبما وردت منشورة، لا تتحدث عن “وقف إطلاق نار كامل وتام”.

لقد قال بايدن في خطابه؛ إنه بعد انتهاء المرحلة الأولى من تبادل الرهائن والسجناء، سوف يستمر وقف إطلاق النار، بينما تستمر المفاوضات على المرحلة الثانية.

بل تنص الوثيقة على شيء مختلف تماما، يستحق القسم الأكثر أهمية فيها، وهو الفقرة 14، أن يورد نصه ها هنا: “جميع الإجراءات في هذه المرحلة (الأولى)، بما في ذلك الوقف المؤقت للعمليات العسكرية من الطرفين، وجهود الإغاثة والإيواء، وانسحاب القوات، إلخ، سوف تستمر في المرحلة الثانية، طالما استمرت المفاوضات على شروط تنفيذ المرحلة الثانية من هذه الاتفاقية. وسوف يبذل الضامنون لهذه الاتفاقية كل الجهود، من أجل ضمان أن تلك المفاوضات غير المباشرة سوف تستمر، إلى أن يتمكن الطرفان من التوصل إلى اتفاق على شروط تنفيذ المرحلة الثانية من هذا الاتفاق”.

“بذل كل الجهود؟” لا يعني أي من ذلك إلزام إسرائيل بالاستمرار في المرحلة الثانية فيما لو فشلت المفاوضات. وإذا ما فشلت، فإن إسرائيل سوف تعود إلى الحرب من جديد.

رفع الراية البيضاء

والفرق الرئيسي الآخر، هو أن الخط الزمني لتمكين الفلسطينيين من العودة إلى ديارهم في شمال غزة قد تم تأخيره. وهذا يعني، من الناحية النظرية، أنه إذا لم يكن هناك اتفاق على المرحلة الثانية، فإن الحرب قد تستأنف دون منح السكان الوقت الكافي للعودة.

كما أن النص يخالف ما كان مطروحا في جميع الصفقات السابقة، من أن حماس، التي تصنف منظمة إرهابية في بريطانيا وفي غيرها من البلدان، فقدت جل حقها في تقرير من هم السجناء الذين سوف تحررهم إسرائيل مقابل عودة الرهائن. فإسرائيل الآن تطالب بحق الاعتراض على إطلاق مجموعة تتكون من مائة من السجناء، الذين يشكلون القيادة في مجموعات المقاومة الفلسطينية الرئيسية.

والمستهدف من ذلك، أشخاص مثل الزعيم الفتحاوي الشهير مروان البرغوتي، الذي يقضي عدة أحكام بالسجن مدى الحياة، الذي قد يترشح لرئاسة السلطة الفلسطينية.

تارة أخرى، يبدو بايدن كما لو كان يسعى لفرض إرادته على نتنياهو، من خلال التصريح بعرض كان نتنياهو يسعى إلى إبقائه طي الكتمان، بينما الذي يحدث في أرض الواقع أمر مختلف تماما.

وتارة أخرى، يسعى بايدن إلى تكريس الموقف الإسرائيلي، تماما كما لم يزل يفعل طوال هذه المفاوضات. وتماما كما أنه سمح للهجوم البري الكبير على رفح بأن يمضي قدما، فإن بايدن يدعم حق إسرائيل في الاستمرار في الحرب، بعد تحرير أول وجبة من الرهائن والسجناء.

من هذه الناحية، يعد نتنياهو محقا: فالنص لا يدعم ما ذهب إليه بايدن من أن وقف إطلاق النار سوف يكون “كاملا وتاما”.

إن توقيع قادة حماس على وثيقة كهذه، سوف يعني أنهم لسوف يرفعون أياديهم في الهواء، ويخرجون من أنفاقهم، ويلوحون براية بيضاء كبيرة. وكلنا نعلم ماذا يحدث للناس الذين يرفعون الرايات البيضاء ويلوحون بها.

لن تضمن الصفقة لا وقف الحرب، ولا انسحاب القوات الإسرائيلية، ولا عودة مليون فلسطيني مشردين إلى بيوتهم. ولسوف يكون خوض ثمانية شهور من الحرب بلا ثمن.

إضعاف بايدن

وكما كنت ذكرت مؤخرا في تقرير سابق لي، ليس لدى حماس الاستعداد للقبول بذلك. فسواء كانت على صواب أم على خطأ، تشعر الحركة بأنها تكسب معركة الإرادات في غزة، وترى أن الجيش الإسرائيلي على وشك الهزيمة.

تعترف حماس بما حل بالقطاع من دمار وهلاك فوق الأرض، ولكنها واثقة من قدرتها على الاستمرار لشهور قادمة تحت الأرض.

بعد أن وقعت على وثيقة قدمت لها باعتبارها صفقة من قبل المفاوضين المصريين والقطريين، ليس لدى حماس الاستعداد لقبول ما يشذ عن ذلك النص. لقد تفاعلت بإيجابية مع خطاب بايدن، ولكن حسبما فهمت من مصادر فلسطينية، فإنها تعد نص العرض الإسرائيلي بداية غير سليمة.

قال أحد المصادر: “تتحدى حماس بايدن الآن في أن يضمن ما ذكره في خطابه في نص العرض المقدم. يريدون ذلك كتابة. يريدون ضمانة أنه بمجرد بدء عملية تبادل الرهائن والسجناء، فإن الحرب ستكون قد انتهت”.

لقد ثبت بلا ريب أن ثمة ثغرات كبيرة بين توصيف بايدن لصفة وقف إطلاق النار وصفقة وقف إطلاق النار نفسها. فهما شيئان مختلفان تماما.

وبات واضحا الآن أنه كلما اقترب موعد الانتخابات، ازداد بايدن ضعفا.

بدلا من إنهاء عمليته في رفح، ها هو الجيش الإسرائيلي يستعد الآن لفتح جبهة ثانية في لبنان، الذي يعد خطّا آخر من خطوط بايدن الحمراء، التي غدا نتنياهو أكثر جرأة على تحديها.

يسعى نتنياهو لكسب الوقت، وهو بذلك يتغلب على بايدن، ويرجو أن يكون فقط بحاجة إلى الاستمرار في الحرب إلى أن يأتي ترامب وينقذه. وكلما طال أمد هذه اللعبة، ازداد بايدن ضعفا.

أخطاء كبيرة في التقدير

ولسوف يتجلى هذا الضعف أمام مرأى الأمريكيين جميعهم، عندما يخاطب نتنياهو الكونغرس بشقيه، حيث سيظهر بصورة بطل العالم اليهودي المسيحي، ولن يكون ذلك الخطاب مجرد كلام.

لسوف يكون حدثا يلقي بظلاله الطويلة والداكنة على الولايات المتحدة كقوة عالمية عظمى، ولسوف يظل عارا وشنارا يلاحقها لزمن طويل.

فهذه الحكومة الأكثر تطرفا في تاريخ إسرائيل، الحكومة المتهمة بارتكاب جرائم حرب، لسوف تحكم قبضتها كالملزمة على النخبة السياسية في الولايات المتحدة.

ولكن من الناحية الجوهرية، تكون إسرائيل قد ارتكبت خطأ كبيرا في التقدير، وهو الخطأ الذي ما فتئت ترتكبه على الدوام.

فهي لم تزل تفضل التعامل مع الزعماء العرب بدلا من التعامل مع المشكلة الحقيقية مع الشعب الفلسطيني نفسه. إلا أن صراعها ليس مع حماس، ولا مع فتح، ولا مع منظمة التحرير الفلسطينية. بل هي في صراع مع الشعب الفلسطيني بأسره.

بعد كل معركة، يبدو أن إسرائيل تظن أن الفلسطينيين سوف يستسلمون، ومع ذلك فإن كل حرب تفرز قيادة أشد عزيمة. وكل أسرة فقدت بعضا من أفرادها الذين قتلوا على يد القوات الإسرائيلية، إنما تشكل مصدرا مضطردا من الأشقاء والأبناء والأحفاد الذين نجوا وبقوا على قيد الحياة، وغدا كل همهم في الحياة هو الانتقام لأحبتهم.

ليست فلسطين هي الأندلس في القرن الرابع عشر، في أقصى العالم الإسلامي. بل إنها في القلب من العالمين العربي والإسلامي. وإن فكرة أن الصراع الفلسطيني سوف يتلاشى دون تسوية مشرفة، وعودة عادلة للاجئين إلى أراضيهم، بحقوق سياسية كاملة، مجرد أحلام صهيونية.

ليس بايدن هو صاحب الضلالة التي ترى أن بإمكان بلد ما الاستمرار في ديمومة متواصلة من الحرب. بل إنها ضلالة إسرائيلية. ولكم أفضت مثل هذه الضلالة إلى انتهاء أكثر من مشروع استعماري استيطاني. ولا ريب أنها تكفي للتبشير بنهاية دولة الفصل العنصري في مستقبل ليس بالبعيد.

عربي21