ما وراء هذه الحرب العدوانية على الضفّة؟

سنُعيد على عُجالة ما قُلناه في المقال السابق من أنّ هذه الحرب العدوانية التي تشنّها دولة الاحتلال على الضفة الغربية الآن، وبالذات الآن ليست سوى مهرب من سلسلة الإخفاقات الإسرائيلية بعناوينها الفاضحة في فشل الحرب العدوانية على قطاع غزّة، وفي العجز عن ردع الحرب الإبادية والتدميرية من جنوب لبنان، وفي الخوف من الذهاب إلى حرب كبرى، أو حربٍ إقليمية قد تتّسع وتتطوّر إلى حربٍ شاملة طاحنة.

في ظلّ هذا الواقع الاحتلالي المرير حقّاً استعجلت دولة الاحتلال حربها هذه لأنها الأسهل نسبياً، والحرب التي يمكن من خلالها إعادة بيع المجتمع الإسرائيلي، وخصوصاً الكتلة الأكثر يمينية، وتطرُّفاً وعنصرية من هذا المجتمع أوهاماً جديدة حول “انتصارات” مزعومة، أو صورة لهذه الانتصارات، خصوصاً أنّ الضفة في الميزان العقائدي لهذه الكتلة هي “مربط فرس” السردية الصهيونية، والضفة هي المنطقة الأكثر “قداسة” من هذه السردية القائمة على الخرافة والأساطير، وخصوصاً، أيضاً، أنّ الضفة من زاوية الأمن القومي الإستراتيجي لدولة الاحتلال قد تحوّلت بعد حرب حزيران 1967 إلى الدجاجة التي تبيض ذهباً من زاوية توفير اليد العاملة الرخيصة للاقتصاد الإسرائيلي الذي تكيف مع هذه الوقائع الجديدة لإحداث قفزات كبيرة في التوجّه نحو الصناعات المتطوّرة في كلّ المجالات، وبالتركيز على صناعة الريادة التكنولوجية، وبالتالي تحوّل موضوع البحث عن “السلام” من دائرة الأرض والجغرافيا، إلى دائرة إدارة السكان، والإبقاء على السيطرة الكاملة على الحدود والموارد.
منذ هذا التحوُّل وحتى يومنا هذا دارت، وما زالت تدور ما تُعرف بـ”عملية السلام” في حلقات متصلة ومتواصلة من الفراغ الأجوف، ولم تمثّل مرحلة عقد اتفاقيات أوسلو، سوى واحدة من هذه الحلقات، التي رأى فيها “أهل أوسلو” من الجانب الفلسطيني فرصةً من شأنها أن تتطوّر إلى دولة أو ما يُشابهها، في حين عزم الجانب الصهيوني على تحويلها إلى “مطبّ” سياسي “يأسر” من خلالها القيادات والمؤسسات الفلسطينية في دائرة المراوحة في صلاحيات “الحكم الذاتي” على السكان في الأراضي المحتلة.
وعندما رفض إسحاق رابين بالمطلق وقف الاستيطان كلياً كشرط للتوقيع على هذه الاتفاقيات فقد حُسم الأمر باتجاه استحالة أن تقدِم أيّ قيادة إسرائيلية على مغامرة وقف الاستيطان لكي لا نتحدث عن تفكيكه.
راهنت دولة الاحتلال على القيود التي تضمّنتها الاتفاقيات لتعزيز حالة الأسر التي مارستها للمؤسسات والقيادات، ولحق بها المقدّرات، في حين راهن الجانب الفلسطيني على “الدعم العربي”، وعلى المجتمع الدولي لتعويض الفرق الهائل في توازن القوى على الأرض، وشهد “كامب ديفيد – 2” أكبر وأهمّ اختبار لهذه التوازنات، وهذه الرهانات، وكانت النتيجة الفاضحة والمفضوحة أنّ الولايات المتحدة الأميركية قد حمّلت مسؤولية الفشل في هذا الاختبار للقيادة الفلسطينية، وبذلك هرب وتهرّب إيهود باراك، رئيس وزراء حكومة الاحتلال آنذاك من مسؤوليته المباشرة عن هذا الفشل لكي يغطّي على كونه “جباناً” سياسياً من الطراز النادر.
هناك، وهناك بالذات أخذت القيادة الفلسطينية “القرار” بالانتفاضة الثانية “انتفاضة الأقصى”، وهناك بالذات كان يمكن لهذه القيادة أن “تتحرّر” من تلك الاتفاقيات، وأن تتمرّد عليها، وليس مجرّد أن تلجأ للسلاح، لأنّ اللجوء إلى السلاح آنذاك كان يعني نهاية الرهانات على التعايش إلّا بالشروط الإسرائيلية، طالما أن الانتفاضة بقدر ما أدمت دولة الاحتلال إلّا أنّها أنهت أيّ إمكانية لتحوّل الاتفاقيات من مرحلة السلطة إلى مرحلة الدولة، مع أنّ اللجوء إلى السلاح كان في معظم الأحيان ردّة فعل على ممارسات الاستخدام المفرط للعنف الإجرامي من قبل الاحتلال، وكانت ردّة الفعل تجري بصورة عفوية وأقرب إلى الارتجالية والتسرّع وبصورةٍ اعتباطية أحياناً، وفي أجواء من المزايدات والمناكفات الداخلية.
وخلاصة القول هنا هي أنّ اللجوء إلى السلاح كان ممكناً ومبرّراً فقط بعد التحرُّر من الاتفاقيات، وبعد فشل المرحلة الانتقالية، وبعد مغادرة القيادة وبعض المؤسسات لكي يعاد عقد اتفاقيات جديدة، على أسس جديدة، وبشروط جديدة، إذا توفّرت لها الإمكانيات والشروط الحقيقية.
أمّا وأنّ شيئاً من هذا كلّه لم يتمّ فقد تمّ “حشر” القضية الوطنية بين فكّي كمّاشة الاحتلال، والموقف الأميركي، وتمّ “تحييد” الموقف العربي الرسمي كلّه، وتحوّل إدخال بعض العصائر إلى مكتب الرئيس الشهيد القائد ياسر عرفات إلى “إنجاز” دبلوماسي عربي كبير!
جرت مياه كثيرة منذ ذلك الوقت، وجرت أحداث الحادي عشر من أيلول، وأصبحت منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الوطنية توصم “رسمياً” بالإرهاب، وتحوّلت “المعركة” الفلسطينية بعد اغتيال عرفات إلى هدف “إبعاد” صفة الإرهاب عن المنظمة والسلطة، والعمل على “إثبات الجدارة” بالحصول على دولة مهما كانت مقيّدة ومكبّلة انتقالياً كما كان يُشاع.
أيّ أنّه مقابل الإصرار الصهيوني على حسم الصراع، وخصوصاً بعد مجيء بنيامين نتنياهو، وتسيُّد “اليمين المتطرّف”، وصعود “اليمين الفاشي” في المراحل الأخيرة من العقد الذي أعقب الانتفاضة الثانية، فقد بقي الواقع الفلسطيني على نفس المراوحة، وعلى نفس المراهنات، وربطت القيادة الفلسطينية مصيرها ومصير القضية بالنظام العربي الرسمي المتماهي في الجوهر مع الرؤى الأميركية و”الغربية”، والمتصالح في الواقع مع الشروط الإسرائيلية للحل من الناحية العملية.
أي أنّ العامل الفلسطيني لم ينقلب على شيء جوهري، وبعد الانقسام الذي تسببت به حركة حماس أصبحت شروط الوحدة موازية لشروط الثالوث العربي الأميركي الإسرائيلي، دون أن نقلّل مطلقاً من دور “حماس” في إعاقة إنهاء الانقسام لأسباب عالجناها عشرات المرّات، وخصوصاً تمسُّكها بالإبقاء على سيطرتها الكاملة على القطاع، والارتهان للمحاور الإقليمية.
كانت دولة الاحتلال قد انتقلت دون إعلان مسبق في نظرتها للسلطة الوطنية، وقبل “طوفان الأقصى” في 7 تشرين الأوّل/ أكتوبر الماضي، من مرحلة فرض الشروط، وتجريدها من أيّ صلاحية جدّية إلى التدرُّج نحو إنهاء هذه السلطة والتخلُّص الكامل منها.
يعتقد “اليمين الفاشي” أنّ الكيانية الوطنية الفلسطينية هي الخطر الأكبر على برامج دولة الاحتلال ومشاريعها، وهو لا ينظر إلى هذه الكيانية كما ينظر لها بعض السّاذجين.
الكيانية الوطنية ليست الحكومة، ولا مؤسسات الحكم، وإنّما المنظمة التي تدافع عن الأهداف والحقوق الوطنية، ودولة الاحتلال تعبّر عن هذا الفهم في مقولة: “حماسستان” و”فتحستان”، لأنّ كليهما روح المنظّمة، وهما التيّاران الوطنيّان، “بعد أن انحازت “حماس” إلى الخيار الوطني، اللذان سيعيدان بناء الحالة الوطنية مع بقية الأطراف الوطنية الفاعلة والنشطة.
والأمر لا يتوقّف هنا، بل إنّ إنهاء السلطة الوطنية في ظلّ تقزيم دور المنظمة لصالح السلطة سيعني “تدمير” المؤسسة الوطنية الأهمّ لكي لا يُعاد بناء الهياكل المعترف بها دولياً وإقليمياً، ولكي تدخل الحالة الوطنية في مرحلة طويلة من “الفراغ” السياسي، أو عدم القدرة على إعادة تجميع الصفوف الوطنية.
العمى الأيديولوجي الإسرائيلي على ما يبدو، والإخفاقات المتواصلة أدّت بالقيادات إلى “مطبّ” المكاسب السريعة تحت ضغط الحاجة الناتجة عن هذه الإخفاقات إذ حوّل معركة الضفة التي كانت وما زالت تدور الآن إلى معركة “للقضاء” على الكيانية الوطنية بقدر ما هو ممكن، وربط هذه المعركة بمحاولات القضاء على “حماس” في القطاع بقدر ما هو ممكن.
سيكون على دولة الاحتلال التي فقدت البصر والبصيرة أن تدفع ثمن إنهاء السلطة الوطنية، وذلك بزجّ عشرات آلاف الكوادر الفتحاوية في معمعان مقاومة الاحتلال، وحينها تكون قد فتحت على نفسها جبهة لن تستطيع مطلقاً إخمادها، ولن تتمكّن من السيطرة عليها، وهي جبهة أخطر عليها بمئات المرّات من الخطر الذي تمثّله جبهة قطاع غزّة، وأكبر من أيّ جبهة إسناد من لبنان أو غيره.
بُؤر المقاومة في شمال الضفة وجنوبها ليست سوى إرهاصات أوّلية لما يمكن أن تتحوّل إليه الأمور في الأسابيع، أو الشهور القادمة، ودولة الاحتلال أصبحت تغامر بكلّ شيء بضغطٍ من حالتها المزرية على كلّ الجبهات الأخرى.
ربما تكون معركة الاحتلال مع بُؤر المقاومة المسلّحة في الضفة أسهل عليها من معركة القطاع، ومن معركة جنوب لبنان، لكن تداعيات هذه المعركة أكبر وأخطر وأصعب عليها من كلّ الجبهات مجتمعة.
من حقّ الناس أن يقلقوا من معركة كهذه، ودولة الاحتلال بدأت تتحدّث علناً عن “التهجير الداخلي”، وهي بدأت بتدمير البنى التحتية، وهي تستخدم ومنذ الآن الحصار، وقطع التيار الكهربائي، وباتت تدهم المؤسسات الصحية، وغداً ستدهم كلّ مؤسسات السلطة الوطنية بما فيها التعليمية، وقد تمتدّ عربدات سوائب المستوطنين إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير.
لهذا فالحوار حول الأساليب الأجدى في مواجهة الاحتلال في الضفة هو حوار مطلوب وضروري، والآراء النقدية حول بعض الأساليب الكفاحية هي آراء مسؤولة ومشروعة، ونقطة التوازن هنا ــ كما أرى ــ هي الإبقاء على أساليب المقاومة قوية وحاضرة في إطار الدفاع عن النفس ضد هجمات جيش الاحتلال وأوباش مستوطنيه، وضدّ الاستيطان بكل الوسائل المتاحة، وأن تظلّ هذه الأساليب في إطار فهم مسألة الاستنزاف في معركة لم تدخل ذروتها بعد، وستطول قبل أن تصل إليها.