هاني المصري
بعدما تجاوزت القوات الإسرائيلية الخطوط الحمر وقواعد الاشتباك المعتمدة منذ الثامن من أكتوبر الماضي، من خلال قصف ميناء الحديدة باليمن، واغتيال فؤاد شكر، المسؤول العسكري لحزب الله، في الضاحية الجنوبية، معقل حزب الله، واغتيال إسماعيل هنية، رئيس حركة حماس، في طهران؛ أصبحت الحرب أمام مرحلة جديدة قد تؤدي إلى حرب شاملة، التي إذا بدأت لا يعرف أحد متى تنتهي، وما نتائجها؟
هل ستفتح المرحلة الجديدة الطريق لاندلاع حرب عالمية أم لا، أو إلى تصعيد جديد في مستوى العمليات العسكرية فقط (قواعد اشتباك جديدة) يقف على حافة الحرب الشاملة من دون الدخول فيها؛ وهذا السيناريو الأكثر احتمالًا لأن واشنطن وطهران لا تريدانها، وإسرائيل لا تستطيع فتحها من دون ضوء أخضر أميركي لأنها ستهزم فيها إذا لم تكن جزءًا من تحالف دولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية؟
قد تستمر الحرب على حافة الحرب الشاملة لفترة إلى حين نضج الأطراف المتحاربة لوقف الحرب، أو تعود إلى الردع المتبادل وفق قواعد الاشتباك السابقة، أو وهذا أضعف سيناريو، يكون التصعيد لعبًا بالنار ومجازفة إلى حد المقامرة من نتنياهو تهدف إلى فتح الطريق لوقف الحرب بشروط يأمل أن تكون أقرب إلى الموقف الإسرائيلي، بدءًا بالاتفاق على صفقة تبادل وهدنة في غزة وصولًا إلى وقف دائم ومستدام للحرب.
الحرب الشاملة مستبعدة
الحرب الشاملة مستبعدة لأن واشنطن في فترة الحملة الانتخابية، ولا يريد الرئيس الأميركي حربًا تضاف إلى الحرب في أوكرانيا ترفع أسعار النفط والتضخم وغير مضمونة النتائج، ويمكن أن تكون طويلة ما يقلل من فرص كامالا هاريس للفوز بالانتخابات الرئاسية القادمة، ولكونها تعطي مدخلًا للصين لزيادة دورها في المنطقة.
وهي مستبعدة كذلك لأن طهران لا تريد محاربة دولة الاحتلال مدعومة من تحالف دولي بزعامة الولايات المتحدة، قبل حصولها على ما يحقق نوعًا من توازن القوى، بما في ذلك على السلاح النووي، في وقت لا تزال أميركا على الرغم من تراجع دورها المتزايد في المنطقة والعالم هي الدولة الأقوى عسكريًا في العالم وذات النفوذ الأكبر، ولم ينضج ويتبلور الحلف المقابل، الصيني الروسي الإيراني، على الرغم من قطعه خطوات ملموسة في هذا الاتجاه .
وهذا يعني أن طهران لا تريد حربًا شاملة تتعرض فيها لإمكانية خسارة ما حققته في العقود الماضية، ولكنها جاهزة لخوضها لو فرضت عليها، وأنها لا تريد أن تظهر ضعيفة وفاقدة الردع خشية من الحرب الشاملة، لذا ستوجه ضربة قوية تحت سقف الحرب الشاملة، ولا تقبل التعايش مع قواعد الاشتباك الجديدة التي تريد فرضها حكومة نتنياهو، حيث تضرب أينما تشاء وكيفما تشاء، من دون رد قوي معاكس في الاتجاه ومساوٍ في المقدار؛ الأمر الذي يضرب هيبة إيران وسيادتها وشرفها ويبث الفتنة والتفكك داخل محور المقاومة.
ما يناسب طهران وحلفاؤها وقف حرب الإبادة في غزة، وإلا استمرار حرب الاستنزاف ضمن قواعد الاشتباك القديمة التي لا تناسب إسرائيل المعتادة على الحرب الخاطفة والحسم السريع وبقاء ميدان الحروب بعيدًا عن جبهتها الداخلية، حيث تجعلها حرب الاستنزاف غير قادرة على تحملها لفترة طويلة قادمة في ظل الضغوط والخلافات الداخلية والخارجية على خلفية أولوية إتمام صفقة التبادل أم لا، أو استمرار الحرب حتى على حساب الرهائن والأسرى الإسرائيليين.
الحرب أمام نقطة فاصلة
تقف الحرب الآن أمام نقطة حاسمة فاصلة، فإما تكتفي إيران وحلفاؤها برد قوي، ولكن لا يدفع الأمور نحو حرب شاملة، وهذا أمر دقيق وعرضة للخطأ بالحسابات؛ لأن أي رد إذا لم يكن قويًا بما يناسب العدوان والتصعيد الإسرائيلي سيفتح شهية دولة الاحتلال لتكريس القواعد الجديدة من جانب واحد، أو إذا جاء الرد قويًا ويقابل برد إسرائيلي قوي عليه، وهكذا دواليك؛ ما ينذر بأن تنزلق الأمور بعده نحو حرب شاملة، أو تقوم أميركا بإقناع إسرائيل بعدم الرد على الرد؛ أي الاكتفاء برد من إيران وحلفائها على أساس واحدة بواحدة؟
تكمن المعضلة في أن التصعيد المجنون الإسرائيلي يدل على أن حكومة نتنياهو ليست بوارد التوصل إلى صفقة تبادل، ليس خشية من انسحاب الوزيرين إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش وسقوط الحكومة، وإنما لأن هذه الحرب حرب وجود، وعلى مكانة إسرائيل ودورها ومستقبلها. لذا، يهدف التصعيد أساسًا إلى استعادة قوة الردع الإسرائيلية التي سقطت سقوطًا مدويًا منذ السابع من أكتوبر وحتى الآن، وإذا امتصت الرد القوي من أعدائها ولم ترد فهذا سيظهر إسرائيل ضعيفة.
يظهر موقف واشنطن معقدًا، فهي تريد صفقة تبادل، ولكنها لا تريد الضغط على الحكومة الإسرائيلية، وتريد أن تخرج ربيبتها (إسرائيل) منتصرة أو غير مهزومة على الأقل، لذلك أيدت عمليتي اليمن والضاحية الجنوبية، وادعت أنها لم تعرف عن عملية اغتيال إسماعيل هنية التي لم تتبنها حكومة نتنياهو حتى تبث الفتنة في صفوف محور المقاومة ولا تمنح شرعية للرد الإيراني.
وفي هذا السياق نضع الجهود الكبيرة التي تبذلها واشنطن لإقناع طهران بالاكتفاء برد رمزي.
لا يُصعِّد نتنياهو من أجل بقائه السياسي فقط
ما سبق يوضح أن الموقف الإسرائيلي المتعنت الذي يدفع الأمور للتصعيد لا يرجع فقط إلى حرص نتنياهو على بقائه السياسي، وتجنب مواجهة لجان التحقيق والانتخابات المبكرة، فيما إذا توقفت الحرب، وإنما يرجع كذلك في أن حكومة اليمين المتطرف ترى أنها تخوض حربًا وجودية أيديولوجية تهدف إلى حسم الصراع التاريخيّ مع الشعب الفلسطيني، وهي حرب على الهيمنة على المنطقة كما يظهر في تركيز إدارة بايدن على دمج إسرائيل في المنطقة، وأن نتائجها وعدم الانتصار الواضح فيها سيؤثر بشدة في وجود إسرائيل ومكانتها ودورها المستقبلي وعلى من يهيمن على المنطقة.
يعرف نتنياهو أنه على الرغم من الخلافات والمناكفات والتنافس الحاد مع المعارضة، فإن هناك أغلبية تدعم الحرب وتريد خروج إسرائيل منتصرة فيها، والخلاف في جوهره حول عقد الصفقة الآن واستئناف الحرب بعدها أم تأجيلها حتى يتم الانتصار باستسلام المقاومة حتى لو أدى ذلك إلى هلاك الأسرى، لذلك لم تتجاوز المظاهرات والضغوط الداخلية والخارجية سقفًا معينًا يمكن التعايش معه والتحايل عليه إذا لم تتزايد أو يظهر متغير جديد يتيح تحقق سيناريو البطة السوداء.
يشجع نتنياهو على الاستمرار في الحرب والتصلب توفر شبه إجماع إسرائيلي على تأييد التصعيد الذي أمر به، خاصة في بيروت وطهران، وظهر ذلك بتأييد 69% من الإسرائيليين – وفق استطلاع رأي – للتصعيد حتى لو أثر على صفقة التبادل سلبيًا.
ما العمل؟ صفقة تبادل مقابل عدم الرد
ما حصل يجب أن يعيد الحسابات على أساس أن حكومة نتنياهو تريد استمرار الحرب وتصعيدها، على الرغم من المجازفة بحدوث حرب شاملة كونها تراهن على أن طهران وحلفاءها لا يريدون حربًا شاملة، ما يعطي أهمية أن يكون الرد من محور المقاومة قويًا وموجعًا، مع وضع هدف مركزي للحرب من قبل الفلسطينيين أساسًا يستند إلى إعلان بكين، وهو إنهاء الاحتلال وتجسيد الاستقلال، حيث يكون العمل لأولوية وقف حرب الإبادة وتبادل الأسرى والانسحاب والإغاثة والإعمار مرحلة وخطوة في هذا الاتجاه.
في هذا السياق فقط يمكن الانفتاح على التوصل إلى صفقة تحتوي وقف الرد من محور المقاومة مقابل الالتزام بشروط المقاومة كاملة (وقف الحرب والانسحاب وتبادل الأسرى والإغاثة وإعادة الإعمار) شرط اتخاذ موقف إسرائيلي واضح بهذا الشأن، يضاف إليه التمسك بضرورة إطلاق عملية سياسية من خلال مؤتمر دولي كامل الصلاحيات ومستمر وهدفه تطبيق القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة لا التفاوض عليها؛ لأن وقف حرب الإبادة يجب أن يحظى بالأولوية المطلقة، فالهدف الأول من الحرب الإسرائيلية هو إبادة الشعب وجعل قطاع غزة بصورة أكبر منطقة غير قابلة للحياة، ودفع الشعب لاحقًا إلى الهجرة.
وكذلك فإنّ ما يجري في الضفة الغربية يستوجب كل الانتباه، فالمقاومة الباسلة يجب ألا تطمس أن الحكومة اليمينية المتطرفة تمضي قدمًا في القضم المتدرج والضم الزاحف الذي يقود لاحقًا إلى التهجير كذلك، وليس من المتوقع قبول حكومة اليمين المتطرف تسوية على أساس عدم الرد مقابل وقف الحرب على أساس شروط المقاومة، ولكن التجاوب مع هذا الطرح إن قدم يساهم في إضعاف دعاة الحرب، ويظهر المقاومة حريصة على وقف شلال الدم.
الحرب الإقليمية ليست في صالح القضية الفلسطينية
هنا لا بد من الإشارة إلى مخاطر تحول الحرب إلى حرب إقليمية شاملة، كونها يمكن أن تعطي حكومة الضم والإبادة والتهجير فرصة سانحة لمواصلة حرب الإبادة والتهجير، مستغلة انشغال العالم بالحرب، لتنفيذ ضم المناطق المصنفة (ج)، أو الكتل الاستيطانية، وتجميع السكان في معازل آهلة بالسكان وتهجير أكبر عدد منهم.
ليس من مصلحة القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني ولا من مصلحة محور المقاومة نشوب حرب شاملة في ظل التردي والهوان العربي؛ أي من دون وجود مشروع عربي يدافع عن الحقوق والمصالح العربية، وفي القلب منها القضية الفلسطينية، وفي ظل التفوق النسبي للمعسكر الاستعماري.
ومن يبني حساباته بأن دولة الاحتلال سائرة نحو الزوال سريعًا، عليه أن يتريث. فعلى الرغم من كل عناصر الضعف الداخلية والخارجية في الكيان الإسرائيلي التي ظهرت حاليًا كما لم تظهر من قبل ومعرضة للتفاقم أكثر، وأعطته حجمه الحقيقي، وأظهرت أنه قابل للهزيمة، فإن إسرائيل دولة نووية ولا تزال قوية، والأهم أنها جزء عضوي وامتداد لمشروع استعماري لن يسمح بزوالها بالبساطة التي يصورها البعض، حيث إن زوالها سيترافق غالبًا مع استكمال انهيار النظام العالمي الجديد وولادة النظام العالمي الجديد.
تشكيل وفد فلسطيني موحد للتفاوض
للمساعدة على تحقيق إحباط أهداف العدوان، وفي سياق البناء على “إعلان بكين” كجزء من تنفيذه وكنموذج تطبيقي له، يمكن تشكيل وفد فلسطيني وطني يضم الجميع على أساس برنامج وطني كفاحي، وخاصة ممثلين عن فصائل المقاومة التي تخوض الحرب لكي يتفاوض باسم الكل الفلسطيني (على غرار ما حدث بعد عدوان 2014)، وهو يؤسس لموقف عربي وإقليمي ودولي داعم يمكّن من قطع الطريق على كل الخطط المعادية المعدة، أو التي يجري إعدادها لليوم التالي.