رغم أن اختيار يحيى السنوار رئيساً للمكتب السياسي كان مفاجئاً لمعظم المتابعين والمراقبين، وأولهم الإسرائيليون أنفسهم، إلا أن ذلك الاختيار لا يعد انقلاباً في مسار الحركة، وإن كان يعتبر حسماً لخيار انحيازها او اصطفافها الإقليمي، وهي الحركة التي ظهرت مترددة، أو متأرجحة بين خيارين إن لم يكن أكثر، وقد ظلت كذلك طوال نحو عقد من السنين، وكان ذلك التأرجح يجد تعبيراته عند انتخاباتها الشورية في إطارها العام، وعند انتخاب أعضاء مجلس الشورى، وأعضاء كل من المكتب السياسي لقطاع غزة، والمكتب السياسي العام للحركة.
وفي الحقيقة، إن من تابع مسار الحركة منذ ظهرت الى الوجود قبل أقل من أربعة عقود، يستنتج بأن الحركة التي ظهرت في قطاع غزة أولاً، وأعلنت بعنوان شخصي تمثل في المؤسس الشيخ أحمد ياسين، وفي أول قيادة عسكرية لها، بأن حماس/غزة ظلت على مدار الوقت، هي مركز الحركة أو قلبها النابض، وحين تشكلت مجموعة الخارج، لم تكن أكثر من مكتب اتصال، يتبع قيادة الحركة في قطاع غزة، ولم يعلن عن ذلك المكتب كمكتب سياسي أولاً، وكهيئة عليا في هرم القيادة التنظيمي ثانياً، إلا بعد استشهاد الشيخ احمد ياسين، وخليفته الشيخ عبد العزيز الرنتيسي، بعده بخمسة وعشرين يوماً فقط، حينها امتنعت الحركة عن إعلان قائدها، خشية من أغتياله، وكانت اسرائيل لم تنسحب من قطاع غزة بعد، وهذا فتح الباب لظهور مكتب الخارج كمكتب سياسي ومن ثم كقمة للهرم، حيث تولى المنصب الأول كل من موسى ابو مرزوق أولاً وخالد مشعل تالياً.
ولم يكن ذلك السبب الوحيد وحسب، بل مع وجود السلطة، وإغلاق ملف الانتفاضة، وظهور حماس كمعارض لأوسلو، وكحركة تقاتل إسرائيل عسكرياً، حيث إن تلك الفترة، عرفت خلالها حماس كحركة تمارس العمليات الاستشهادية، بهدف إيقاع الضحايا في صفوف الإسرائيليين حتى لو كانوا مدنيين، وذلك في مدن تل أبيب والقدس وغيرهما، وبقيت حماس في ظل قيادة المكتب السياسي في الخارج ضمن محور الممانعة، حيث كان معظم أعضاء مكتبها السياسي يقيمون في دمشق، الى أن ظهرت بعد سنوات متغيرات، أثرت بدورها على الوضع الداخلي للحركة، وكان أهم هذه المتغيرات، أمران: الأول هو فوز الحركة بأغلبية مقاعد المجلس التشريعي الفلسطيني عام 2006، حيث تولى إسماعيل هنية رئاسة الحكومة الفلسطينية العاشرة، لكن المركز الأول للحركة كان خالد مشعل بصفته رئيس مكتبها السياسي، فيما هنية وزملاؤه من الوزراء، أعادوا الاعتبار لحماس/غزة كمركز ثقل رئيسي في الحركة، وقد تعزز ذلك بالتدريج.
أولاً خلال تفرد حماس منذ عام 2007 بالسيطرة على قطاع غزة، وإدارته كحكومة ونظام، وبعد أن كانت مجموعة الخارج المرتبطة بمحور الممانعة، هي قيادة الحركة بسبب سيطرتها على التمويل، الذي تجمعه من حلفائها ومؤيدي الحركة خارج فلسطين، تقدمت قيادة غزة، بعد ما سمي باقتصاد الأنفاق، لتنافس جدياً قيادة الخارج، ثم كان الأمر المهم الثاني، هو ظهور الربيع العربي، حيث نجح الأخوان المسلمون في حكم تونس ومن ثم مصر، ما رفع من شأن قيادة غزة في حماس، المرتبطة أكثر بإخوان مصر، وقد كان إسماعيل هنية شخصياً، رافعاً لهذه الراية، واعلن مراراً انحيازه لتركيا/أردوغان، ومن ثم لمصر/مرسي، فيما اضطر مشعل وزملاؤه لمغادرة دمشق، وقد حدث معهم فيما يخص العلاقة مع محور الممانعة خاصة سورية، ما حدث مع عرفات والملك حسين فيما يخص العلاقة مع دول الخليج بعد انحيازهما لصدام حسين، بعد احتلاله الكويت.
وهكذا فإن خالد مشعل وفي ظل رئاسة الإخواني محمد مرسي لمصر زار غزة عام 2012، وفي ذلك اعتراف بأهميتها، وفي تلك الزيارة قام بإرضاء قيادة غزة بالاتفاق مع إسماعيل هنية بتعيينه نائباً لرئيس المكتب السياسي، حتى انتهاء ولاية مشعل، وبعد ذلك يفتح له الطريق ليكون هو رئيساً للحركة، وكان ذلك عام 2017، فيما كان القسام دائماً، غير مهتم بالقيادة السياسية، بل إن حماس وعلى غير التنظيمات الفلسطينية كلها، تفصل بين قيادتيها السياسية والعسكرية، أو أنها تضع فاصلاً بين اختصاص القيادتين، بحيث تتصرف القيادة السياسية فيما يخص الشأن السياسي دون تدخل من القيادة العسكرية، في مقابل أن القيادة العسكرية تتخذ القرار العسكري بكل حرية، ودون أي ضغط أو تدخل من القيادة السياسية، أي أن القيادة السياسية، تكاد لا تكون مسؤولاً أعلى للقيادة العسكرية، كما هو الحال في الدول وحتى الفصائل الفلسطينية.
وتولي إسماعيل هنية رئاسة الحركة، كان يعني انتصار الخيار الذي راهن على دول وأحزاب الإخوان المسلمين، خاصة بعد أن أصرت دمشق على عدم التغاضي عن موقف الحركة الذي انحاز للإخوان في الربيع العربي، ومنهم إخوان سورية الذين كانوا ضمن معارضة النظام السوري، وصولاً الى الانخراط في حرب دموية داخلية ضده، وبعد خروج إخوان مصر تماماً من الحكم، وكذلك إخوان تونس بدرجة حاسمة من حكم تونس، عادت حماس لتتأرجح بين قوتين إقليميتين هما: محور المقاومة، ومحور الدول التي يجد الإخوان فيها ملاذاً آمناً، بالتحديد نقصد تركيا وقطر، وحاول إسماعيل هنية بزيارته للمغرب عام 2021، ولقائه مع سعد الدين العثماني، رئيس إخوان المغرب، وكان رئيس وزراء سابقاً، أن يحافظ على انحياز حماس للإخوان، وللأحزاب الدينية السنية في المنطقة العربية.
وحقيقة الأمر أن حماس راهنت كثيراً وطوال 17 سنة على كل من تركيا وقطر، لكسر الحصار الإسرائيلي الخانق، وبالتالي إعمار وبناء غزة بعد عدة حروب، حتى تظهر كما لو كانت دولة غير معلنة، لكن فشل السفن التركية، في تحقيق كسر الحصار، وعدم كفاية أموال العمادي لتلبية احتياجات غزة، التي كانت تتعرض لحروب وعمليات عسكرية متواصلة، مع تحدي الجهاد العسكري، الذي تعايش مع حماس، كما هو حال حزب الله مع الدولة اللبنانية، وفتح خطوط الدعم العسكري بالتدريب والتمويل من محور المقاومة، جعل الجناح العسكري، أي القسام، مع الوقت اقرب لأيران وقوى المقاومة، فيما القيادة السياسية التي تقيم في قطر، وتركيا، نجحت في إقامة علاقة جيدة مع ايران، لكن مع استمرار انغلاق الباب السوري في وجهها.
لا بد من القول، بأن سبعة عشر عاماً، تعني بأن اختيار يحيى السنوار رئيساً لحركة حماس، لم يكن انقلاباً أو خطوة هبطت من السماء، ذلك أن استمرار عجز المراهنة على “تحرير” غزة وإطلاقها للخارج، لتديرها حماس بحرية، وفشل قطر وتركيا في القيام بدور العراب، الذي يقنع إسرائيل بتغيير هدفها النافي للهوية الفلسطينية، والذي كان وراء تشجيعها لانقلاب العام 2007 واستمراره، قد حسم أمر حماس أخيراً، بالانحياز الى محور المقاومة، والإلقاء بكامل رصيدها في هذا الاتجاه، خاصة وأن عشرة أشهر من الحرب أظهرت لها تأكيداً إضافياً، بأنها لن تحصل على أي شيء جدي من إسرائيل عبر الوساطة مع قطر وتركيا الدولتين اللتين لهما علاقة جيدة مع إسرائيل.
فخلال الحرب الحالية، كانت حماس تراهن على أن تضطر إسرائيل الى عقد صفقة مع حماس، لا يكون من شأنها الإبقاء على حكم حماس لغزة وحسب، بل وأن تضاعف من قوتها ونفوذها في الشارع الفلسطيني، بحيث تكون سهلة عليها السيطرة على الضفة، وحتى على منظمة التحرير بوجود الرئيس محمود عباس، أو بعد غيابه، لكن ما حدث خلال العشرة أشهر، يقول بأن إسرائيل لم تتوقف، وأن ورقة المحتجزين لم تجبر إسرائيل على الاكتفاء بعملية عسكرية غير حاسمة في غزة، وهذه النتيجة تظهر عدم تأثير قطر وتركيا، ولا بعد تهديد أردوغان بالتدخل العسكري قبل أسابيع، وبالمقابل، فإن محور المقاومة، قام بإسناد غزة، بما مكنها من الصمود كل هذا الوقت، وهكذا فإن اختيار السنوار رئيساً للحركة، لا يؤكد بأن الرجل ما زال حياً يرزق، يقود المقاومة ميدانياً، وحسب، بل رسالة لإسرائيل بأن الحركة لم تعد مترددة، وأنها اقتنعت بأنها لن تحصل على شيء بالتفاوض أو بالسياسة من قبل حكومة فاشية، وأنها اختارت المقاومة، وصارت حماس تشبه كثيراً “الجهاد الإسلامي”، وابتعدت عن مظهر الحركة الحاكمة، أو أنها صارت تشبه الحوثي الذي يحكم اليمن كحركة وليس كنظام، وكمقاومة وليس كجيش او أجهزة أمن.
بقي أمر أخير لا بد من الإشارة إليه وهو أن حماس باختيار السنوار، تخلت عن حكم غزة، وهي بذلك تقبل تسليمها فعلياً للسلطة، بعد أن تأكد بأن إسرائيل هي من يرفض ذلك منعاً لوحدة الضفة والقطاع، والسنوار خاصة في مفاوضات الصفقة، وإن كان مسماه القيادي رئيس مكتب حماس في غزة، فإنه كان صاحب القرار الفصل، أي كان قبل أن يسمى رسمياً، وحتى في حياة إسماعيل هنية وخالد مشعل، وأبو مرزوق هو القائد الفعلي الميداني، العسكري والسياسي لحماس.