بعد استطلاعات للرأي تُظهر تقارب المرشحين الرئاسيين، جاءت المناظرة الرئاسية بين كامالا هاريس ودونالد ترامب، التي بثتها شبكة ABC من فيلادلفيا فجر يوم أمس، قبل نحو ثمانية أسابيع فقط من يوم الانتخابات. ورغم اعتقاد كل من المرشحين بفوزه في هذه المناظرة، إلا أن أياً منهما لم يفز بالضربة القاضية، الأمر الذي يُبقي تأرجح استطلاعات الرأي حول نتائج الانتخابات على حالها. وطالبت هاريس بمناظرة ثانية، وهو الأمر الذي لا يستطيع ترامب رفضه. ويحتاج التحضير للمناظرة حوالى الشهر، الأمر الذي يعني إمكانية حدوث مناظرة أخرى. واستفادت هاريس بشكل خاص من هذه المناظرة في تعريف الناخبين بها، خصوصاً وأن ترامب معروف لدى الجمهور الانتخابي، ومخضرم بخوض المناظرات، فخاضها ثلاث مرات من قبل. وانقسم المستطلعة آراؤهم بعد مناظرة أمس حول أي من المتنافسين يفهم مشاكل البلاد، فارتفعت أسهم هاريس في ذلك، مقارنة بنتائج ما قبل المناظرة، وباتت النتائج في العموم متقاربة، وإن بقيت الاستطلاعات تمنح الأفضلية لترامب في التعامل مع الاقتصاد. بُثت مناظرة أمس من فيلادلفيا( في ولاية بنسلفانيا) التي تتمتع بأهمية تاريخية وانتخابية كبيرة. فشكلت أهميةً خلال الثورة الأميركية، ووُقّع إعلان الاستقلال في العام 1776 في «قاعة الاستقلال» في المدينة. وتشهد الولاية منافسة شديدة في هذه الانتخابات، اذ حسمت نتائج التصويت فيها وصول بايدن إلى الحكم في العام 2020. ومن المعروف أن هذه الانتخابات لن يتم حسمها بعدد الأصوات الشعبية، وإنما من خلال نظام المجمع الانتخابي، فتصويت الولايات سيكون حاسماً، الأمر الذي يفسر تصريحات هاريس لكسب العرب والمسلمين، والتي يمكن أن تحسم نتائج مقاطعات بأكملها لصالحها.
وتمتاز هاريس بانتقاد المتنافسين لها خلال المواجهة معهم، كما حدث ذلك في انتقاد بايدن من قبل، وترامب أمس، الأمر الذي يفقد مناظراتها الجدية والمهنية في طرح الأفكار. هاجمت هاريس خلال المناظرة ترامب معتبرة أنه «ترك أسوأ حالة بطالة منذ الكساد العظيم، وأسوأ جائحة صحية منذ قرن، وأسوأ هجوم على الديمقراطية منذ الحرب الأهلية»، وأكدت أن «ما فعلناه هو تنظيف الفوضى التي خلّفها ترامب». وتحمل حملة هاريس شعار «لن نعود إلى الوراء»، للاشارة لسياسات الرئيس السابق ترامب، يأتي ذلك رغم كل المشكلات التي تعاني منها البلاد اليوم. في حين نجح ترامب في هذه المناظرة بضبط النفس وتحييد الهجوم، فتبنى موقف الدفاع لرفع تهمة التنمر ومهاجمة النساء. كما أنه نجح بعرض وجهة نظر منطقية فيما يتعلق بالإجهاض، وهو الملف الذي يعتبر نقطة قوة في حملة هاريس، ووسيلتها لجني أصوات عدد كبير من النساء الذين يشكلون أغلبية في الولايات المتحدة، عندما خاطب عقلية المتدينين الأميركيين المتحفظة، وأقر بضرورة الظروف الاستثنائية لذلك، ومنح الولايات هامشاً أكبر في اتخاذ القرار. وأجاب ترامب بحنكة عندما سئل عما إذا كان يريد أن «تنتصر» أوكرانيا بالحرب، مؤكداً أنه يريد أن تتوقف. فركز على تكاليفها على الولايات المتحدة، وشدد على فشل منافسيه في منع نشوبها أولاً والعجز في إنهائها حتى الآن.
لم تقدم المناظرة الجديد عما تم طرحه في الدعاية الانتخابية للمرشحين، وبقيت هاريس تنسخ ملامح حقبة سياسة الرئيس بايدن الضعيف بتفاصيلها، وترامب يتمسك بموافقة العامة التي انعكست خلال حقبة رئاسته السابقة.
ألقت هاريس اللوم على ترامب في قضايا الحدود بسبب جهوده لإفشال مشروع قانون أمن الحدود الذي تم تبنيه من قبل الحزبين. تروّج هاريس باعتبارها الداعم لملاحقة المهربين على الحدود. ويتهم ترامب الديمقراطيين بأنهم سمحوا للملايين من المهاجرين بالدخول إلى البلاد، ما أدى إلى ارتفاع نسبة الجرائم في الولايات المتحدة. وأطلقت هاريس خطة اقتصادية من شأنها حظر رفع الأسعار في متاجر البقالة، وتقول إنها «ستنهي نقص المساكن في أميركا» وتخطط لبناء «اقتصاد الفرص»، وتعهدت بمعالجة تكاليف الإسكان ومساعدة الأسر والأعمال التجارية الصغيرة. تحدثت هاريس عن خططها لخفض الضرائب «ولدي خطة لتحسين المستوى المعيشي وخفض الضرائب». واعتبر ترامب أن هاريس ليست لديها خطة للنهوض بالاقتصاد الأميركي. وأكد على آلية فرض الرسوم الجمركية على الدول الأخرى، واستشهد بالصين، مؤكداً جني بلاده الكثير من تلك الخطة التي ظلت سارية حتى بعد مغادرته منصبه. واقترح تعرفة جمركية بنسبة 10 في المئة على جميع الواردات الأميركية، وتعهد بتخفيضات ضريبية شاملة، وبالحفر في البلاد لخفض أسعار الطاقة. كما اكد ترامب أنه «سيغلق الحدود» لوقف المهاجرين غير الشرعيين.
لجأ المرشحان للمغالطات والتضليل في بعض الأحيان، الأمر الذي يشكك بمصداقية ومهنية أي منهما، ويرجح مقاربة افتقار الولايات المتحدة لقيادة مستقبلية تمكن الولايات المتحدة من الخروج من مأزقها الحالي. بدأ ترامب المناظرة بتوجيه اتهام لهاريس بأنها «ماركسية»، وهو أمر غير صحيح. وخلال تناولهما موضوع الانسحاب الأميركي من أفغانستان، قال ترامب إن طالبان ورثت معدات عسكرية أميركية بقيمة 85 مليار دولار تركتها القوات الأميركية، إلا أن ذلك غير دقيق. فطالبان استولت بالفعل على معدات عسكرية أميركية الصنع، عندما سيطرت على السلطة في العام 2021، إلا أن المبلغ المذكور يمثل تقريباً إجمالي المساعدات المخصصة للجيش والشرطة الأفغانية خلال الحرب التي استمرت عقدين. وأثار الرئيس السابق ادعاء بأن هاريس «تريد مصادرة أسلحة» الأميركيين، وهو أيضاً ادعاء غير صحيح، اذ تميل هاريس لدعم تطبيق قوانين تعزيز السلامة العامة في ظل استمرار حيازة الأسلحة، وردت هاريس بامتلاكها سلاحاً بالفعل. وادعى ترامب كذلك بأنه نفذ قانون الرعاية الصحية «أوباما كير»، رغم تعهداته السابقة بإلغائه، لكن ذلك أيضاً غير صحيح، لأنه حاول إلغاءه ولم ينجح عند التصويت عليه في الكونغرس في العام 2017، ووقع أمراً تنفيذياً في بداية ولايته لإلغائه، ثم قلص فترة التسجيل له وخفض تمويله. واتهم ترامب أيضاً بأن مهاجرين هايتيين يأكلون حيوانات أليفة لمواطنين في أوهايو، ما استدعى تدخل مسؤول المناظرة الذي نفى ذلك. وزعمت هاريس أنه لا يوجد أفراد من الجيش الأميركي في الخدمة الفعلية في منطقة قتال خارج البلاد للمرة الأولى هذا القرن. إلا أن ذلك غير صحيح، فالكونغرس لم يعلن رسمياً الحرب منذ سنوات، إلا أن القوات الأميركية موجودة في مناطق قتال بعدة دول، اذ تتواجد تلك القوات في العراق وسورية وفي الصومال وأجزاء أخرى من أفريقيا وتقوم بمهام في البحر الأحمر. وفي المناظرة صرحت هاريس أيضاً أن إدارة بايدن أضافت أكثر من 800 ألف وظيفة جديدة للاقتصاد الأميركي، إلا أن معظم تلك الوظائف (746,000) أُضيفت في عامي 2021 و2022، مع نمو بطيء في 2023 وأوائل 2024، أي خلال الحرب الروسية الأوكرانية، التي تدفع الولايات المتحدة ثمناً لها أيضا، ففي آب 2024، فقد الاقتصاد نحو 24,000 وظيفة، ما خفض الإجمالي إلى 739,000.
وفي سؤال للمتنافسين حول الحرب على غزة، كررت هاريس تصريحاتها السابقة حول حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، وضرورة انهاء الحرب، والتشديد على حل الدولتين وإعادة إعمار غزة. وبينما تتواصل حدة حرب الإبادة في غزة، وتتصاعد حدة المعارك المضبوطة في شمال فلسطين، وتتأجج نار المواجهة في الضفة، لا يخرج موقف المرشحين عن دعم مطلق لإسرائيل، لكنْ كل على طريقته. فتصريحات هاريس في جوهرها لا تذهب بعيداً عن موقف بايدن والديمقراطيين، الذين يتبنّون فكرة حل الدولتين، كما صرحت هاريس في المناظرة، دون أي اجراء حقيقي لتحقيق ذلك، في ظل مواصلة الدعم المفتوح لإسرائيل. ويتفق ترامب مع موقف بايدن وهاريس الداعم لإسرائيل، والذي يعكس دعم الجمهوريين والديمقراطيين لإسرائيل في اروقة صنع القرار الأميركي، ولكن تبقى طريقة الدعم مختلفة، اذ يفضل ترامب إظهار دعمه على طريقته الدراماتيكية المبالغ فيها. وفي المحصلة، لن يستفيد الفلسطينيون في حال صعود أي من المرشحين للحكم، في ظل سياسة عامة محسومة تتبناها الولايات المتحدة لدعم ومساندة إسرائيل.
وبخصوص نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة، جدد ترامب رفضه الاعتراف بهزيمته في الانتخابات الرئاسية قبل أربع سنوات، مكرراً مزاعمه بشأن تزوير نتيجة الانتخابات. وهو الأمر الذي يشير إلى إمكانية حدوث مشاكل مشابهة عند صدور نتائج الانتخابات القادمة لغير صالحه.