لم تمارس أعتى فاشيّات التاريخ ما تمارسه إسرائيل في شمال قطاع غزة، فهو أكبر من أن يحتمله إرث البشرية المكلل بعار مجرميه الذين تركوا ندوباً دائمة على وجه الإنسانية، كيف لدولة أن تمارس كل هذا الجنون، وكيف للمتفرجين على مسرح الإنسانية العابث أن يرى كل هذا ويبقى صامتاً؟ هي نفس الحكاية التي تتكرر منذ عقود بسحق الظالم للضحية.
مخيم الذكريات حيث تتجسد الكارثة والبطولة، مخيم جباليا المحفور في القلب بأسواقه وأزقته ورائحته وهدوئه وعنفه والشوارع التي تحفظ كل الذكريات، أتصوّرني أتأمل منطقة نادي الخدمات، حيث وُلدت وأحفظ تفاصيلها التي يجري إبادتها في المنطقة الفاصلة بعد تقسيم شمال القطاع إلى جزأين، شمال الشمال ويشكل بيت حانون وبيت لاهيا ومخيم جباليا، وجنوب الشمال الذي يشمل مدينة غزة وضواحيها والنصر والشيخ رضوان، يبدأ الخط الفاصل بين منطقة التوام غرباً إلى عزبة عبد ربه شرقاً مروراً بالإدارة المدنية.
دمار لا يمكن وصفه وجوع لا يمكن تخيّله، حين تصاب الروح بلسعة الجسد ويصاب القلب بصدمة الإبادة، طائرات تلاحق الناس في الشوارع، قتل غير مسبوق للأخضر واليابس، للأطفال والنساء والشيوخ في موجة أكثر عنفاً من سابقاتها، بعد أن سجلت الناس صمودها الأسطوري وتحملت ما لا تتحمله صخور الجبال. فقد جاع الشمال وأكل علف الحيوانات مترافقاً مع الموت الذي لم يكف عن الانتشار في البيوت وتحت الحطام وفي الحواري والساحات، حيث تم صلب اللحم الجائع على الحيطان وفوق السطوح.
يا لها من مقتلة تختصر صراع شعب بات واضحاً أن الإجماع الكوني يلتحق بالجريمة لإبادته وإنهاء وجوده على أرضه. فلولا عار الصمت الذي كلل الكرة الأرضية لما تجرأت إسرائيل على الاستمرار بهذا الجنون، لكن التاريخ لم يخل من التواطؤ المرافق لمسار السياسيين ورثة فريديناند أمير ميكافيللي حيث البشر مجرد وقود للمصالح.
أتخيلني هناك أتلمّس البيوت بيد مبتورة أصابتها شظية، وأحاول أن أجر نفسي فتخذلني قدماي في لحظة موت لم يتحقق في أسوأ كوابيسها على أكثر منعطفات الحياة قسوة بقلب مكسور لم تخطئة القذائف المصوبة ولكن كسره الخذلان أكثر.
حصار طويل تكسر صمته القنابل التي لم تتوقف، وجوع جديد يجعل من قطرة المياه مشروع حياة لكنها لا تتوفر، أما البحث عنها فتلك مخاطرة على حافة الموت لا يقدر عليها أحد، أما الأكل لمن لم نفد عنده فهو مغامرة انتحارية وسط انتشار طائرات الموت الصغيرة التي تعدم كل من يتحرك إلا باتجاه واحد شرقاً نحو شارع صلاح الدين ثم يميناً نحو الجنوب.
المشروع تطهير عرقي ظهر منذ أول الحرب، عندما طالب الجيش الغازي الذي قطع القطاع عند حدود وادي غزة مطالباً الشمال بالنزوح جنوباً، حينها سجل عدد لا بأس به بطولة أسطورية حين فضلوا الموت على الرحيل، ولم يثنهم الموت والقتل والمجاعة عن موقفهم، وظلوا ثابتين يحتضنون حجارة ما تبقى من البيت والذكريات ويحتضنون ما تبقى من أطفالهم المشرعين للموت.
كيف تُركت إسرائيل تفعل كل هذا؟ كانت الإجابة في المقال السابق بأن المواثيق والقوانين لا تشملنا، وبالتالي لم يبق كثير من الوهم يمكن التعايش مع حقيقته الماثلة أمام كل من اكتوى بنار العدالة وميزانها المعوج لصالح الظلمة والقتلة وكل المجرمين الذي عبروا… وحين جاءت عدالة التاريخ كان الزمن قد تأخر.
خطة الجنرالات هي ما تفتق عنه العقل الفاشي بتطهير المنطقة من سكانها، طرد الفلسطيني ليعيش الإسرائيلي آمناً، هكذا تتجسد العدالة وهناك في الحكومة الداعشية من دعاة التطهير العرقي وتفريغ الشمال. وقد لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فالقرار الإسرائيلي بتفريغ غزة كلها هذا لم يعد يحتاج إلى تفسير بعد جعلها منطقة لا تصلح للحياة. لكن الفلسطيني يجسده تمثال طائر العنقاء الذي ينتصب في ساحة المدينة قبل أن تغتاله الدبابات حين اجتاحت غزة. روح العنقاء هي ما تتلبس الفلسطيني المغدور وتشعل فيه رغبة الحياة كلما شارف على النهاية، وما أكثر النهايات ولكن البدايات كانت أكثر.
وتحت غبار الحرب الإقليمية تتسلل إسرائيل تحت جنح غياب الصحافة لتمارس محرقتها الجديدة ضد الشمال قتلاً وترويعاً وتجويعاً وتطهيراً وتهجيراً، ما سيتوجب التركيز أكثر على ما يحدث في الشمال ومخيمه الأبرز، فإذا نجحت في تفريغه من السكان سينتقل الأمر للجنوب، ولن يتوقف الإسرائيلي عند هذا الحد، فهي فرصته للبدء برسم إسرائيل الكبرى.. الشمال وغزة كلها نحو هيمنة إقليمية جديدة لسنوات.
غيرت إسرائيل تسمية الحرب من «السيوف الحديدية» إلى تسمية جديدة «تكوما» وتلك بالعربية تعني «البعث «وليس النهضة كما الترجمة النصية، البعث يعني بعث إسرائيل من جديد نحو الهيمنة الإقليمية التي لن تمر إلا عبر ترحيل السكان، بما يتجاوز غزة نفسها وحجر طاحونتها شمال غزة ومخيم جباليا.. هكذا فعل كل مجانين التاريخ قبل أن ينهزموا بعد فوات الأوان.