عـن إزالـة الـذرائـع..

عـن إزالـة الـذرائـع..

2024 Sep,03

في الصراع مع الاستعمار الاستيطاني العنصري، اعتدنا تقييم العوامل الدولية والإقليمية والعربية، وقلّما توقفنا عند العامل الفلسطيني الذاتي. في هذه المعركة الأكثر دموية في العالم كما في غيرها من الحروب السابقة، التوقف عند السياسة الفلسطينية المتبعة أثناء الحرب أهم ألف مرة من التوقف بعدها؛ ذلك أن الابتعاد عن الأخطاء قد يساعد في تفادي نتائج الحرب الكارثية والتقليل من المعاناة الشديدة للسواد الأعظم من المواطنين. 

القضية الأخطر التي تواجهنا هي سعي الحكومة الفاشية الكهانية إلى حسم الصراع، من خلال ترجمة مشروع إقصاء الشعب الفلسطيني، وشطب حقوقه المشروعة، وتدمير مقومات تقرير مصيره إلى غير رجعة، وبأسرع وقت. هذا التقدير يردده الجميع تقريباً، لكن قطع الطريق عليه ومنعه أو تأخيره يكتسب أهمية حاسمة في تحسين الأداء الفلسطيني السياسي. 
لا شك في أنّ ذلك يعتمد على أسلوب النضال، هل يمكن قطع الطريق على مشروع تصفية قضيتنا بحرب مواجهة مع دولة متغطرسة ومتفوقة حتى الثمالة، علينا الاعتراف بأن كل حروب المواجهة، خاصة حرب طوفان الأقصى، بين شعب محتل ومحاصر ومخنوق بالقيود كانت خاسرة تماماً. لقد جرى اعتماد حرب المواجهة العسكرية في الانتفاضة المسلحة 2000 ولم نتعظ من نتائجها، تلت ذلك حروب المواجهة بين المقاومة وجيش الاحتلال في قطاع غزة، ولم نتعظ من نتائجها، وبادرنا إلى «طوفان الأقصى» الذي أردناه معركة فاصلة تنتهي بالفوز على آلة الحرب المدمرة، ولم نتعظ من نتائج حرب الإبادة الأكثر دموية في العالم منذ تسعينيات القرن العشرين وحتى اليوم.
بعد 11 شهراً على الحرب التدميرية القاتلة، دعا خالد مشعل، من أبرز قيادات «حماس»، إلى العودة «للعمليات الاستشهادية» التي كانت سبباً – ليس وحيداً – بل مقرراً في اجتياح الضفة العام 2002 وتصفية واعتقال واحتواء المجموعات المسلحة، وتدمير البنية المدنية للسلطة (مطار وميناء)، واغتيال الزعيم ياسر عرفات وأبرز قادة «حماس»، فضلاً عن العدد الضخم من المعتقلين، واستخدمت العمليات الاستشهادية مبرراً لبناء جدار الفصل العنصري. وأضاف مشعل: «هم يقاتلوننا بصراع مفتوح ونحن نواجههم بصراع مفتوح، أكرر دعوتي للجميع للمشاركة في جبهات متعددة». الصراع المفتوح الذي أراده مشعل هنا هو مشاركة الجميع في حرب المواجهة، وقد خص مشاركة الضفة في المقاومة التي رأى أنها تتصاعد ويدعو إلى دعمها بعمليات استشهادية.
حقيقة الأمر أن حرب المواجهة هي الحرب التي تريدها إسرائيل وتمدها إلى آخر مدى لتحقيق أهدافها. كان من المفترض استخلاص الدرس بأن حرب المواجهة في شروط خصائص الأطراف المتحاربة هي لمصلحة الطرف الأقوى الذي يتحكم في شروط القوة. الصراع سيبقى مفتوحاً طالما بقي بلا حل سياسي هذه فرضية صحيحة، لكن الاختلاف فيما إذا كان من المناسب خوض صراع مفتوح عبر حرب المواجهة بين طرفين غير متكافئين البتة، أو اعتماد الخصائص المتناقضة، بوضع عناصر قوة الشعب، على عناصر ضعف دولة الاحتلال الاستيطاني، وتحييد آلة الإبادة ما استطاع الشعب إلى ذلك سبيلاً، كما حدث في الانتفاضة الأولى، وهذا لم يحدث في حرب طوفان الأقصى، وفي عمل كتائب المقاومة داخل الضفة. 
في تبريره لأوسع عملية عسكرية في شمال الضفة، يصور الخطاب السياسي الإسرائيلي أن المقاومة في الضفة الغربية ذراع إيرانية جاءت بهدف إنشاء جبهة شرقية ضد إسرائيل، وأصبحت الضفة مرتعاً لتكاثر الخلايا الإرهابية ولهذا السبب نفذ الجيش عملية ضخمة ومعقدة لمكافحة الإرهاب»، وإن الهدف هو الوصول إلى مختبرات صناعة المتفجرات في الضفة والقضاء على الإرهابيين». يتجاهل الخطاب السياسي والإعلامي الإسرائيلي أن دولة الاحتلال فتحت معركة الضفة منذ سنوات عبر الاستيطان الزاحف والتطهير العرقي لأكثر من 20 تجمعاً فلسطينياً في الأغوار ومسافر يطا والقدس، وعبر برامج وقوانين وأهداف محددة أهمها اختراق المسجد الأقصى توطئة لبناء الهيكل كما أعلن بن غفير. 
يقول أستاذ التاريخ العسكري في الجامعة العبرية خلال مقابلة مع الصحافي غيورا أيالون: إن إسرائيل تنتهج إستراتيجية محددة تقوم على الطرد الجماعي للفلسطينيين، مشدداً: يجب طرد جميع الفلسطينيين، يجب أن نستغل أي حادث من شأنه أن يوفر لنا فرصة ذهبية لطردهم، ولا يهم إسرائيل ما يقال عنها». 
الهجوم على مدن جنين وطولكرم وطوباس ونابلس ومخيماتها، والشروع في تدمير البنية التحتية من طرق ومبان وشبكات كهرباء وماء ومحاصرة مستشفيات، وتصفية مجموعات من الشبان المقاومين، حيث بلغ عدد الشهداء منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول وحتى اليوم 680 شهيداً وأكثر من 4 آلاف إصابة، و10 آلاف معتقل أفرج عن نصفهم تقريباً. الهدف من الهجوم البدء في مشروع تهجير المواطنين، وقد بدأ فعلاً، فمن أصل 11 ألف مواطن في مخيم نور شمس بقي 6 آلاف مواطن، ويستمر التهجير من مخيم جنين بعد تدمير بنيته التحتية وجزء من بيوت المواطنين، وقد جاء كلام وزير الخارجية، يسرائيل كاتس، ليؤكد أن التهجير سياسة رسمية لحكومة نتنياهو حين قال: يجب أن نعمل على إجلاء مؤقت للسكان في الضفة الغربية، وعلينا أن نتعامل مع التهديد في الضفة تماماً كما نتعامل مع التهديد في غزة». 
العملية العسكرية هي الأضخم في الضفة، حيث تنتشر 23 كتيبة من جيش الاحتلال في الضفة الغربية (ضعف العدد المنتشر في قطاع غزة حالياً)، هذه العملية لا تتناسب مع تهديد يشكله 100 مسلح من حركة الجهاد و70 مسلحاً من «حماس» وكتائب الأقصى، كما نشر في الصحافة الإسرائيلية؛ فهذه القوات تمارس حرب تصفية وإعدامات ميدانية لشبان مقاومين وغير مقاومين، وقد شنت 22 هجوماً على مخيم نور شمس منذ 7 تشرين الأول، وأكثر منها على مخيم جنين، ولا يوجد تطور أمني يبرر شن عملية عسكرية بهذه الضخامة.
ولكن كما يقول المثل: «وراء الأكمة ما وراءها»، فالهجوم المتواصل في شمال الضفة لا ينفصل عن حرب الإبادة وإعادة احتلال قطاع غزة، وكلاهما يصب في حرب حكومة نتنياهو الكهانية التي تستهدف الشعب الفلسطيني وقضيته ومشروعه الوطني؛ فهذه الحكومة تعمل على حسم الصراع باستخدام سلاح التهجير والتطهير العرقي والقمع الدموي في الضفة الغربية، وحرب الإبادة وتحطيم المجتمع في قطاع غزة، مستفيدة من الدعم الأميركي المفتوح ومن تواطؤ النظام الدولي الذي لم يتدخل لوقف حرب الإبادة. 
بقي القول: إن الضمان هو الموقف الفلسطيني المتحرر من الأخطاء، الذي يغلّب العقل والحكمة والمصلحة العليا الوطنية والوجودية على كل الاعتبارات والمصالح الفئوية والأجندات الاستخدامية. الموقف الذي يزيل كل الذرائع التي استخدمت وتستخدم في شن العدوان. الموقف المستمد من عدالة القضية الفلسطينية التي جذبت دعماً وتأييداً وتضامناً هائلاً، ومن قدرة الشعب على مواصلة النضال بالأشكال والوسائل التي تقربه من أهدافه، ومن الجرأة في نقد الأخطاء والمغامرات، ومن انتقال المشروع الاستيطاني إلى المرحلة الفاشية العنصرية المرفوضة لدى سائر شعوب العالم.