يبدو الأمر غير معتاد عندما يُكتب مقال موجه إلى إسرائيل ليس فقط إلى قيادتها السياسية ومؤسساتها التشريعية والقضائية والأمنية، ولكن إلى المجتمع الإسرائيلى برمته على أمل أن يقرأ هذا المقال رجل رشيد منهم قد يدفعه إلى وقفة مع النفس، والتى تعنى فى رأيى إعادة التفكير الجدى ولو لمرة واحدة فى طبيعة السياسات التى تنتهجها الحكومات الإسرائيلية المختلفة ومدى قدرتها على تحقيق أهداف الدولة من عدمه.
وأبدأ المقال بمخاطبة أهم دوائر صنع واتخاذ القرار فى إسرائيل وأعنى الحكومة الحالية، وبغض النظر عن كونها من أكثر الحكومات المتطرفة فى تاريخ الدولة باعتراف المعارضة الإسرائيلية نفسها وقطاعات عديدة فى المجتمع الإسرائيلى، إلا أننى أعترف بأن كل حكومة فى العالم تهدف إلى تحقيق مصالح شعبها، ولكن السؤال المطلوب طرحه هنا موجه بصفة أساسية إلى الائتلاف الحاكم ومفاده هل السياسات الحالية التى ينتهجها تحقق مصالح الشعب الإسرائيلى فى الأمن والاستقرار والرفاهية؟ أم أن العكس هو الصحيح؟
ودعونى أتطرق إلى عمق الموضوع وأطلب من إسرائيل أن تحدد الأهداف الطبيعية التى ترنو إلى تحقيقها، وهنا سوف أتطوع وأحاول أن أحدد أهم هذه الأهداف، التى تتمثل من وجهة نظرى فى الأهداف المفترضة لأى دولة وهى الأمن والاستقرار والتنمية والتطوير فى مختلف المجالات، وأن تكون للدولة وضعيتها المميزة على المستويين الإقليمى والدولى، ومن حق كل دولة أن تتحرك لتحقيق أهدافها ولكن طبقاً لمقررات القانون الدولى ودون أن تجور على حقوق الغير.
ومن هذا المنطلق فإنى أدعو الحكومة الإسرائيلية إلى وقفة جادة مع النفس وأن تسأل نفسها سؤالاً رئيسياً هل نجحت بعد نحو قرن إلا ربع قرن منذ قيام الدولة فى أن تعيش بشكل طبيعى فى محيطها الإقليمى؟ أم أنها لاتزال بعد هذه العقود تعيش حالة حرب وكأن الوضع لم يختلف كثيراً منذ عام 1948 وحتى الآن؟ وسوف أترك هذه الإجابة لأصحاب القرار فى إسرائيل وأدعوهم إلى أن تكون الإجابة صادقة بعيداً عن العنجهية والتطرف الذى ستكون تأثيراته السلبية غير المسبوقة على مستقبل الدولة.
وفى هذا السياق لابد أن أكون أكثر مباشرة وتفصيلاً فى مخاطبة إسرائيل من حيث مايلى: ماهى طبيعة الرهانات التى تراهن عليها؟ ماهى الأسس التى تستند إليها فى مواقفها المتشددة؟ هل تعتقد أن العناصر الخارجية الداعمة لها سوف تبقى قائمة إلى الأبد؟ هل لم تتم الاستفادة من التأثيرات المتتالية لحرب غزة التى كشفت بوضوح أن الدعم الخارجى لم ولن يعد كما كان من ذى قبل؟ هل القضية الفلسطينية التى حاولت لسنوات طويلة وأدها قد انتهت؟ أم أنها عادت إلى دائرة الضوء وبقوة بغض النظر عن النتائج التى سوف تترتب على ذلك مستقبلاً؟ هل عامل الوقت سيكون فى مصلحتها على المديين المتوسط والبعيد، خاصة من الناحية الديموجرافية، وكذا من النواحى الاقتصادية والسياسية والعسكرية التى سوف تتغير فى غير صالحها بمرور الوقت؟ هل ترى أنها سوف تظل إلى مالانهاية الدولة الوحيدة فى المنطقة التى تمتلك السلاح النووى؟ أو حتى التفوق العسكرى على الدول العربية مجتمعة؟ هل ترى أن فرص اندماجها فى المنظومة الإقليمية تقترب كما كانت تأمل؟ أم أنها تبتعد كما هو متوقع؟ هل اتفاقات التطبيع العربى وفرت لها الأمن والسلام والتقدم الاقتصادى الذى تنشده؟ أم أن هذه المعاهدات قد تتأثر سلباً بمرور الوقت؟
هل حلم السلام مع السعودية أصبح متاحاً؟ أم أنه أصبح بعيد المنال ولن يتحقق إلا بشروط قد لا تستطيع تنفيذها، وبذلك تفقد أحد أهم الإنجازات التى تسعى إلى تحقيقها فى المرحلة المقبلة؟ هل يمكن لإسرائيل أن تحيا فى ظل هذا المناخ شديد التوتر على مختلف الجبهات لفترات طويلة؟ إلى أى مدى يمكن أن تتحمل الدولة هذه الضغوط والاستنزافات التى تخصم من رصيدها وبقوة على جميع المستويات الداخلية والخارجية؟
هل كان الوضع الإقليمى والدولى لإسرائيل سيصبح بهذا الشكل السلبى الراهن إذا كانت القضية الفلسطينية قد وجدت طريقها إلى الحل؟ هل الحرب الحالية على غزة وخلق أجيال معادية ومحيط إقليمى يتوجس منها وكذا السياسات التى تتبعها فى الضفة الغربية والقدس سوف تحقق لها الأمن المنشود؟ هل إسرائيل بوضعيتها الحالية قادرة على الاندماج فى المنظومة الإقليمية وإنجاز مزيد من التطبيع العربى؟ أين هى الرؤية الإسرائيلية لحل المعضلة الفلسطينية؟
ومن هنا فإننى أطالب أصحاب القرار فى إسرائيل بإعادة حساباتهم قبل فوات الأوان، فبالرغم من كل التوترات الحالية فمازالت هناك فرصة أن نفتح صفحة جديدة فى تاريخ الصراع العربى الإسرائيلى تبدأ بحل القضية الفلسطينية، وهذا الأمر رغم أن البعض يراه مثالياً وهو محق فى ذلك إلا أنه قد يكون قابلاً للتطبيق بشرط واحد، وهو أن تتوافر الإرادة الحقيقية للسلام لدى إسرائيل أولا.ً نظراً لأنها هى الدولة الوحيدة فى العالم التى لاتزال ترفض إقامة الدولة الفلسطينية تحت ادعاءات غير مبررة وأوهام توسع لن تتحقق.
وفى النهاية فإن نقطة البداية الصحيحة بل والوحيدة تتمثل فى رأيى فى ضرورة أن تقتنع إسرائيل بأن استمرار الوضع الحالى لن يكون فى مصلحتها، وأنه لامجال أمام أى حكومة إسرائيلية سوى أن تضع عملية السلام فى أولوياتها إذا كانت تريد أن تحقق مصالح شعبها، أما دون ذلك فسوف تستمر تدور فى حلقة مفرغة من عدم الأمن والاستقرار، ولن تنجح فى أن تحقق هدف الاندماج فى المنطقة مهما بلغت قوتها العسكرية وطال احتلالها ، كما سوف تظل أسيرة لأحزاب شديدة التطرف ومحدودة الأفق، ولايهمها سوى أصوات مؤيديها رغم علمها أن هذه السياسات تقود الدولة نحو المجهول.