النماذج السلوكية الكبيرة.. ثورة جديدة في مجال الذكاء الاصطناعي

حقق الذكاء الاصطناعي قفزات نوعية خلال السنوات الأخيرة، خصوصًا مع تطور النماذج اللغوية الكبيرة (LLMs) التي أظهرت قدرات فائقة في معالجة اللغة الطبيعية وفهم النصوص، وإنتاج المحتوى المرئي والمكتوب. ولكن حتى مع هذه القدرات الفائقة لهذه النماذج في تحليل الأنماط فإن قدرتها على محاكاة التعلم والسلوك البشري الديناميكي محدودة. لذلك، بدأت التوجهات نحو تطوير النماذج السلوكية الكبيرة (LBMs) التي تهدف إلى تمكين الآلات من التعلم والتصرف بطريقة تحاكي البشر.

ما النماذج السلوكية الكبيرة؟

على عكس النماذج اللغوية الكبيرة التي تعتمد بنحو أساسي على مجموعات بيانات ثابتة، تتميز النماذج السلوكية الكبيرة بقدرتها على التعلم المستمر من التجارب المختلفة؛ مما يسمح لها بالتكيف مع البيئات الديناميكية واتخاذ القرارات المناسبة لحظيًا. وهذا التحول يعزز من إمكانات الذكاء الاصطناعي ليصبح أقرب إلى الإنسان، ليس فقط في معالجة المعلومات بل في كيفية استجابته للمطالبات المتغيرة والمعقدة.

مزايا النماذج السلوكية الكبيرة:

ترتبط قدرات النماذج اللغوية الكبيرة بنحو أساسي ببيانات التدريب الخاصة بها. فهي قادرة فقط على أداء المهام التي تتوافق مع الأنماط التي تعلمتها في أثناء التدريب، وتواجه صعوبة في التعامل مع البيئات الديناميكية التي تتطلب اتخاذ قرارات لحظيًا أو التعلم من التجارب.

بالإضافة إلى ذلك، لا تستطيع النماذج اللغوية الكبيرة التعامل مع الإشارات البصرية أو الحسية، مما يجعلها غير قادرة على تقديم استجابات شاملة في المواقف التي تتطلب فهمًا شاملًا للعوامل المختلفة.

من جهة أخرى، يتميز التعلم البشري بالتكيف، وعلى عكس الآلات، لا نحتاج إلى تجربة كل سيناريو ممكن لاتخاذ القرارات في المواقف المختلفة. بدلًا من ذلك، نستخلص النتائج من تجاربنا السابقة.

تهدف النماذج السلوكية الكبيرة إلى سد هذه الفجوات من خلال إنشاء أنظمة لا تعالج البيانات اللغوية فقط، بل تتعلم وتتطور باستمرار من التفاعلات السابقة، وتتأقلم بسهولة مع البيئات الجديدة، تمامًا مثل البشر. وهذا النهج يحوّل التركيز في مجال تطوير نماذج الذكاء الاصطناعي من “ماذا يعرف النموذج؟” إلى “كيف يتعلم النموذج؟”.

إذ تركز النماذج السلوكية الكبيرة في فهم تصرفات البشر ودوافعهم، متجاوزة حدود تقليد اللغة فقط، ويمكنها التعامل مع البيانات المختلفة مثل: الصور، والأصوات، والحركة، مما يتيح لها فهمًا شاملًا للبيئة. كما تمتاز هذه النماذج بقدرتها على التكيف الديناميكي الذي يجعلها قادرة على تحديث معلوماتها وتطوير إستراتيجياتها لحظيًا؛ مما يجعلها مرنة وقابلة للتكيف مع السيناريوهات الجديدة.

آليات التعلم في النماذج السلوكية الكبيرة:

لتحقيق التعلم المشابه لطريقة التعلم البشري، تجمع النماذج السلوكية بين ثلاث آليات رئيسية:

1- التعلم الديناميكي: 

مثلما يتعلم الطفل من خلال المحاولة والخطأ، تتعلم هذه النماذج من تجاربها اليومية عبر التفاعل مع العناصر في البيئة المحيطة.

2- الفهم الشامل: 

على عكس النماذج اللغوية الكبيرة التي تقتصر قدرتها على معالجة النصوص، يدمج البشر بين الرؤية والصوت واللمس والعواطف لفهم العالم بطريقة شاملة. تهدف النماذج السلوكية الكبيرة إلى تحقيق فهم مشابه، بحيث يمكنها فهم الأوامر المنطوقة وتعرف الإيماءات ونبرة الصوت وتعابير الوجه.

3- الاستفادة من الخبرات السابقة لتعلم أشياء جديدة: 

يتميز التعلم البشري بالقدرة على الاستفادة من المعرفة والخبرات السابقة لتعلم أشياء جديدة. على سبيل المثال: يمكن للشخص الذي تعلم كيفية قيادة السيارة أن يستفيد من هذه المعرفة لتسهيل تعلم كيفية قيادة قارب. 

تواجه النماذج اللغوية الكبيرة صعوبة في نقل المعرفة بين المجالات، ولكن النماذج السلوكية الكبيرة صُممت للاستفادة من تجاربها عبر المجالات المختلفة. على سبيل المثال: يمكن لنموذج سلوكي كبير مدرب على المساعدة في الأعمال المنزلية أن يتكيف بسهولة للعمل في بيئة صناعية مثل مستودع، حيث يتعلم تلقائيًا في أثناء التفاعل مع البيئة الجديدة بدلًا من الحاجة إلى إعادة تدريبه.

التطبيقات العملية للنماذج السلوكية الكبيرة:

مع أن هذا المجال ما يزال حديث ويحتاج إلى تطوير، فإن تطبيقاته الحالية تُظهر إمكانات واعدة، وأبرز هذه التطبيقات:

  • طورت شركة Lirio نموذجًا سلوكيًا لتحليل البيانات السلوكية للمرضى، وتقديم توصيات صحية مخصصة، مما يساعدهم في الالتزام بالعلاج وتحسين نتائجهم الصحية.
  • بالتعاون مع معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وجامعة كولومبيا، طورت شركة تويوتا نظامًا يستخدم النماذج السلوكية الكبيرة لتعليم الروبوتات أداء مهام منزلية معقدة من خلال مراقبة تصرفات البشر، مما يتيح التوسع في استخداماته ليشمل مئات المهام المختلفة خلال الأعوام القادمة.

الخاتمة:

تمثل النماذج السلوكية الكبيرة نقلة نوعية في عالم الذكاء الاصطناعي، فهي تعيد تعريف كيفية تعلم الآلات وتفاعلها مع العالم. ومع استمرار تطور هذا المجال، ستصبح الآلات أكثر قدرة على التكيف مع البيئات المختلفة والمتغيرة باستمرار؛ مما يمهد الطريق لتطبيقات مبتكرة ومستقبل أكثر ذكاءً.