في السعي لإسكات جبهة إسناد الفلسطينيين من لبنان، تنقسم نخب دولة الاحتلال إلى قسمين: النخبة الحاكمة الأكثر تطرفاً ودموية في تاريخها، والجيش ومعه المؤسسة الأمنية وقادة المعارضة السياسية.
القسم الأول بقيادة نتنياهو يريد إعلان الحرب الشاملة على لبنان، رغم علمه بأن فرص هزيمة المقاومة اللبنانية محدودة، لكنه يُمنّي نفسه بتوريط الولايات المتحدة فيها، لعلها تحمل عبئها نيابة عنهم، ولا يهم هنا إن كان ذلك سيؤدي الى حريق يلتهم منطقة الشرق الأوسط. المهم بالنسبة لهم هو تحييد من يهدد أمنهم أو التوصل الى تسويات تعطيهم الشعور بأن أمنهم قد تم تأمينه، ولو لعقد أو عقدين من الزمان يتمكنون خلاله من إعادة بناء قوتهم وهيبتهم واستكمال مشروعهم بالاستيلاء على الضفة الغربية.
القسم الثاني الذي يمثله غالانت لا يبدو أن لديه الثقة بأن توريط الولايات المتحدة في حرب شاملة في الإقليم ممكن، وهو يريد تنسيق كل خطواته معها لأنه الطريق الوحيد الممكن للفوز بأية معركة كبرى. وعلى الرغم من تراجع غالانت العلني عن هذا الموقف وحديثه عن نفاد الفرص الديبلوماسية وعن ضرورة الاستعداد للحرب لتغيير المعادلات في الشمال، إلا أن هذه الرؤية مازالت موجودة لدى العديد من قادة جيش الاحتلال، لعلمهم أن دولتهم لا يُمكنها الصمود أمام حرب استنزاف طويلة حتى مع وجود الدعم الأميركي لها. لهذا لا يريد هؤلاء المغامرة بحرب على لبنان دون ضمانات وتنسيق وثيق مع الولايات المتحدة، حتى تتحمل الأخيرة عبء الحرب إذا استدعت الضرورة ذلك، وهو الاحتمال الأقرب للواقع.
الهجمات الإرهابية على لبنان والتي أدت الى استشهاد العشرات وإصابة الآلاف من المقاتلين والمدنيين كانت الحل الوسط بين النخبة السياسية الحاكمة والجيش المُجرم ولكن العاجز عن تحقيق انتصار على جبهات القتال.
في حساباتهم، أن المقاومة اللبنانية التي لا تريد حرباً واسعة وشاملة لن تقوم بعملية رد تستهدف المدنيين الإسرائيليين مثلما استهدفوا هم المدنيين في لبنان، وأن أقصى ما يمكن للمقاومة القيام به، في غياب الحرب الشاملة، هو البحث عن أهداف عسكرية “محمية” لاستهدافها مثلما فعلوا يوم ٢٥ آب الماضي.
في غياب الرد الحاسم من المقاومة، تحقق النخبة الحاكمة والجيش بعضاً مما سعوا إليه منذ بداية الحرب، وهو استعادة بعض من ثقة مجتمعهم بهم، وارسال رسالة للمحيط العربي الشعبي والرسمي الذي اكتشف هشاشة دولتهم بأن استخباراتهم مازالت “خارقة للعادة”، وإيهام المقاومة اللبنانية بأن يدهم أطول بكثير مما يُعتقد، لعل ذلك يدفعها للموافقة على تسويات سياسية بعيدا عن اسناد الشعب الفلسطيني ومقاومته، وهو ما قاله بوضوح أمين عام حزب الله في خطابه يوم أمس حول الهدف من العمليات الإرهابية التي قامت بها دولة الاحتلال.
دعونا نوضح هنا عدة قضايا:
أولاً، يجب عدم الخشية من القول بأن دولة الاحتلال حققت نجاحا في اختراق سلاسل توريد أجهزة الاتصال للمقاومة اللبنانية. وكان من الجيد، ورغم كل ألم اللبنانيين ومقاومتهم، أن يتم الكشف عن هذا الخرق قبل أي حرب كبرى حتى لا تتفاجأ المقاومة به خلالها. بلا شك ستقوم المقاومة اللبنانية بما يلزم لكشف حقيقة ما جرى وسد أية ثغرات تمكن الاحتلال من أحداثها خلال السنوات الأخيرة.
المقاومة والشعوب العربية يعلمان أن بإمكان دولة الاحتلال تحقيق نجاحات تكتيكية لأن غالبية مخابرات دول العالم تعمل معها وتساعدها، لكن النجاحات لا يُمكن تحويلها لنجاحات استراتيجية ما لم يتم هزيمة المقاومة، وهذا لم يحدث بعد سنة كاملة من الحرب ولن يحدث أيضاً. كلما طالت حرب الاستنزاف، خسرت دولة الاحتلال واشتد ضعفها.
ثانياً، فعلت خيراً المقاومة اللبنانية بعدم الرد سريعاً على هذه الجرائم، فالأصل هو عدم “اللعب” بشروط دولة الاحتلال، بل إجبارها على “اللعب” بشروط المقاومة. وهنا يبدو جلياً أن معركة الاستنزاف التي تخوضها المقاومة تؤتي ثمارها، وإلا لماذا تغامر دولة الاحتلال بالكشف عن أحد أهم أسلحتها، وهي قدرتها على تفخيخ أجهزة اتصالات المقاومة وتفجيرها. لو لم يكن هذا فعل دولة “يائسة”، لماذا غامرت بكشفه بينما كان بإمكانها استخدامه أثناء الحرب لمفاجأة المقاومة وإفقادها إمكانيات السيطرة والتحكم.
ثالثاً، اللجوء للإرهاب هو تعبير عن حالة شديدة من الضعف. تلجأ التنظيمات الإرهابية مثلا لاستهداف المدنيين وعدم تمييزهم عن العسكريين، لأنها لا تمتلك الوسائل للقيام بذلك ولأن قوتها ضعيفة جداً مقارنة مع الجهة التي يحاربونها، فتقوم بتعويض ذلك باستهداف المدنيين.
عندما تلجأ دولة لإبادة المدنيين مثلما تقوم به دولة الاحتلال في غزة والآن في لبنان، فهي تُعلن للعالم عن ضعفها وعجزها أمام المقاومة. قتل وإرهاب المدنيين في لبنان لن يعيد سكان المستوطنات الشمالية إلى بيوتهم، ولن يمنع المقاومة اللبنانية من الاستمرار في دعمها للشعب الفلسطيني ومقاومته، وهنا على الاحتلال أن يتساءل عن الأهداف التي حققها من إرهابه. لا شيء باستثناء تكريس القناعة التي أصبحت تسود العالم العربي اليوم بأن السلام مع دولة بهذا المستوى من الإجرام ليس ممكناً ولا مُحبذاً أيضاً.
رابعاً، هنالك اجماع بين النخبة الحاكمة في دولة الاحتلال والجيش على ضرورة مواجهة المقاومة اللبنانية. كلا الطرفين يريد الحرب، لكن الفارق بينهما أن النخبة السياسية الحاكمة تريدها أياً كانت الأثمان، بينما الجيش يريدها ولكن لأنه يدرك بأنه لن يكسبها فهو يريدها منسقة جيدا مع من يحميها، مع الولايات المتحدة.
قناعتي بأن الولايات المتحدة لا في هذه الإدارة ولا في أي إدارة جديدة، ديمقراطية كانت أم جمهورية، ستعطي ضوءاً أخضر لحرب تُرسل فيها عشرات الآلاف من جنودها للقتال مع دولة الاحتلال. لكن تبقى الحقيقة أن قرار الحرب هو في يد النخبة السياسية الأكثر تطرفاً في تاريخ دولة الاحتلال، وبالتالي يجب عدم المراهنة على استبعاد الحرب، ويجب العمل كما لو أنها واقعة غداً.
المقاومة في ساحاتها المختلفة تراكم نجاحها بالنقاط وعبر الاستنزاف الطويل. لقد أنهت والى غير رجعة قوة ردع دولة الاحتلال، وهي تفرض على الاحتلال شروطها في المواجهة في لبنان والبحر الأحمر، وتستنزفه في غزة والضفة، وما لم يتمكن من تحقيقه من خلال حرب الإبادة في غزة، لن يتمكن من تحقيقه في لبنان عبر ارتكاب المجازر.
هل لديك سؤال؟
تابعنا على السوشيال ميديا او اتصل بنا وسوف نرد على تساؤلاتك في اقرب وقت ممكن.